لماذا لا نتفاءل كثيرًا من نتائج اجتماع الفصائل الفِلسطينيّة في بيروت ورام الله؟

 

بعد خِلافاتٍ، وصِدامات، وتبادل الاتّهامات، وفشل كُل المشاريع واتّفاقات المُصالحة، تشهد العاصمة اللبنانيّة بيروت اجتماعًا مساء الخميس على مُستوى الأُمناء العامّين لحواليّ 15 تنظيمًا فِلسطينيًّا في مقرّ السّفارة الفِلسطينيّة وبالتّوازي مع اجتماعٍ آخَر ينعقد في مقرّ السّلطة الفِلسطينيّة في رام الله، وسيكون الاجتِماعان برئاسة الرئيس الفِلسطيني محمود عبّاس.

العناوين الرئيسيّة لهذين الاجتماعين التصدّي لصفقة القرن، والمشروع الإسرائيلي المدعوم أمريكيًّا، بضمّ أجزاءٍ من الضفّة وغور الأردن، ومُواجهة خطط التّطبيع واتّفاقات السّلام المُتسارعة مع دولة الاحتِلال وكان آخِرها اتّفاق السّلام الإماراتي الإسرائيلي، إلى جانب عناوينٍ أُخرى مِثل تكريس المُصالحة الفِلسطينيّة وتفعيل منظّمة التحرير وإصلاحها.

انعقاد هذا الاجتماع من حيث المظهر إنجازٌ في حدّ ذاته لأنّه جاء بعد جفوةٍ وتعطيلٍ وخلافاتٍ وانقِسامات للسّاحة الفِلسطينيّة استمرّت ما يَقرُب من العشرين عامًا، وبسبب رِهان السّلطة، والرئيس عبّاس، على المُفاوضات والحُلول السّلميّة للقضيّة الفِلسطينيّة، ورفضه لكُلّ أشكال المُقاومة الفاعلة.

آمال السّلطة ورئيسها انهارت كُلِّيًّا، ومعها أُكذوبة حل الدّولتين، بعد انحِياز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لدولة الاحتِلال الإسرائيلي وتبنّيه لصفقة القرن التي تتبنّى الاستيطان وتوسّعه، وضمّ القدس المحتلّة، ومُعظم أراضي الضفّة وغور الأردن، والآن بات الرئيس الفِلسطيني يُعاني من العُزلة التامّة في مكتبه في رام الله، ولا يُهاتفه أيّ أحد من المسؤولين ناهِيك عن الزّعماء العرب، وبلغت الإهانة ذروتها عندما رفضت جامعة الدول العربيّة طلبًا بعقد اجتماع عاجل لوزراء الخارجيّة العرب “لمُناقشة” التّطبيع الاماراتي الإسرائيلي ومُعارضته.

كان من المُفترض في مِثل هذه الظّروف الصّعبة، وتفاقم مسيرة التّطبيع واتّفاقات السّلام المُنفردة في خُروجٍ سافرٍ عن مُبادرة السّلام العربيّة أن يقوم الرئيس عبّاس بجولةٍ تشمل العواصم العربيّة لشرح مخاطر هذا التّطبيع على القضيّة الفِلسطينيّة ولكنّه لم يَجِد آذانًا صاغيةً من مُعظم، إن لم يَكُن كُل القِيادات العربيّة، لأنّ طلباته في هذا الصّدد قُوبِلَت بالإهمال والتهرّب من الرّد.

طائرة الرئيس عبّاس التي كلّفت الميزانيّة الفِلسطينيّة أكثر من 50 مِليون دولار ما زالت رابضةً مهجورةً في مطار عمّان يأكلها الصّدأ، ويُغطّيها الغُبار، ولم تَعُد تطير إلى أيّ عاصمة عربيّة أو أجنبيّة إلا فيما ندر، ليس بسبب الكورونا، وإنّما بسبب تراجع أهميّة القضيّة الفِلسطينيّة، ومنظّمة التّحرير بالتّالي، فالدّول، والشّعوب بطبيعة الحال، لا تحترم إلا القويّ والفاعِل، ولا تُعير اهتمامًا للضّعفاء، المُتسوّلين للسّلام.

القضيّة الفِلسطينيّة فقدت هيبتها ومكانتها، لأنّ مَن يدّعون تمثيلها تخلّوا عن مُقاومة الاحتِلال بأشكالها كافّةً، وباتوا يلهثون خلف سراب السّلام، وفُتات المُساعدات الماليّة التي يتصدّق بها المُجتمع الدولي كرَشوة لشِراء الصّمت، وعدم إزعاجه، وهو مُجتمعٌ يَحرِص على أمن إسرائيل واستِقرارها وازدِهارها، بالمُقاومة حتّى لو كانت سلميّةً تَستخدِم الحجارة والمَسيرات الاحتجاجيّة والبالونات الحارقة.

صحيح أنّ الرئيس عبّاس أعلن تحلله مِن كُل الاتّفاقات مع دولة الاحتِلال، بما في ذلك اتّفاق أوسلو، مصدر كُل المصائب، وما تفرّع عنه من اعتِرافاتٍ وتنسيقٍ أمنيّ، ولكن بقاء السّلطة يَشِي بأنّ هذا التحلّل يظلّ “رمزيًّا” طالما لم يتم تفعيله على الأرض على شكلِ مُقاومةٍ فاعلةٍ مُؤثِّرةٍ تجعل كُلفَة الاحتِلال باهِظَة الثّمن.

لا نَعرِف ماذا يُمكن أن يدور في الاجتماعات المُغلقة لهذه الفصائل الفِلسطينيّة، خاصّةً أنّ الغالبيّة السّاحقة منها مُجرّد هياكل عظميّة، وبُدون أيّ كوادر على الأرض، وتوقّفت عن العمل المُقاوم مُنذ عُقود، ولكن أيّ بيانات “إنشائيّة” مُكرّرة حول الوحدة والمُصالحة الوطنيّة، والعِناق والمُصافحات الحارّة أمام عدسات التّلفزة ستُعمّق الأزمة الفِلسطينيّة، وستُؤدِّي إلى تبخّر ما تبقّى من مِصداقيّةٍ لهذه التّنظيمات، وهو قليلٌ جدًّا على أيّ حال، وربّما تُحاول بعض الجِهات في السّلطة استِغلال هذه الخطوة لتحسين شُروط عودتها إلى المُفاوضات العبثيّة مُجدَّدًا.

القضيّة الفِلسطينيّة فقدت هيبتها، ولهذا تجرّأت وتتجرّأ بعض الحُكومات عليها لأنّ بعض أصحاب هذه القضيّة تخلّوا عن ثوابتهم الوطنيّة، وجعلوا من الشّعب الفِلسطيني شعبًا مُتسوِّلًا يعيش على الصّدقات، ومُرتّب آخِر الشّهر، ويأتَمِر بأمر الفاسدين المُطبّعين الذين يدّعون تمثيله، وطالما استمرّ هذا الوضع المُخجِل والمأساويّ، ستسير القضيّة الفِلسطينيّة من السّيء إلى الأسوَأ، وستَكثُر الطّعنات المسمومة لها في الظّهر والصّدر معًا.

لا نستطيع أن نُغرِق في التّفاؤل ونحن نُتابع وقائع هذين الاجتماعين في بيروت ورام الله، لأنّنا نعرف أنّ الفصائل التي تُؤمِن بالمُقاومة، وأدركت مُسبقًا خُطورة نهج الاستِسلام، تُشَكِّل الأقليّة وسط هذا الحشد من الفصائل ولا تتعلّم مِن أخطائها السّابقة، ولا تزال تتوقّع الكثير مِن الذين تلوّثوا بدنَس اتّفاقات أوسلو “أُم الكبائر”.

المطلوب مرحلة جديدة ناصعة البياض تُعيد للقضيّة الفِلسطينيّة كرامتها وهيبتها واحتِرامها، كقضيّة عادلة لشَعبٍ عظيم ليس أمامه أيّ خِيار غير مُقاومة الاحتِلال.

خِتامًا نقول شُكرًا للبنان حُكومةً وشعبًا الذي وافق على استضافة هذا الاجتماع وتحدّى كُلّ الضّغوط، مُؤكِّدًا أنّه ربّما الوحيد الذي يتمسّك بالثّوابت، ويُؤكِّد إيمانه ودعمه للقضيّة الفِلسطينيّة في زَمنٍ تخلّى الكثيرون عنها.

 

 

صحيفة رأي اليوم الالكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى