لماذا لم تخفْ عمّتي من الموت ؟!

عندما توفيت عمتي أثارت اهتمام القرية كلها، فهي امرأة فقيرة طيبة هادئة قليلة السمع، كانت تعيل أسرتها بصبر وتشتغل على تنور صغير في بيتها، تأخذ على كل (عجنة) عدة أرغفة، فتؤمن خبز البيت وتبيع الفائض للنسوة الكسولات اللواتي لايقمن بعجن الطحين ونقله إلى التنور!

كانت عمتي حنونة طيبة كريمة، وكنا نحن نعيش في المدينة، فقد ترك أبي التدريس في القرية وانتقل إلى وظيفة في ديوان حكومي، وكنا نزور القرية عدة أيام في السنة خلال عطلة المدارس في الصيف !

كنت أشتاق لأيام الصيف تلك، فهناك أرافق الفلاحين إلى الحصاد والبيادر وقطاف العنب من الكروم، وعندما لا يكون ثمة فرصة لهذه الرحلات كنت أبقى في القرية ألعب مع الأطفال .

كانت عمتي تطلب مني أن أزورها في التنور، فتصنع لي فطائر الجبن وتقدم لي الخبز المقمر قبل أن أذهب إلى اللعب، وعندما أتعب أو أجوع، أعود إلى تنورها السحري، وكان مذاق الفطائر الساخنة هو أطيب أنواع الأطعمة والوجبات السريعة التي أكلتها في حياتي التالية وفي مختلف البلدان!

وحكاية عمتي هي التي جعلتني أتحدث عن الخوف من الموت، فقد عاشت نحو سبعين سنة، وما حصل معها عندما توفيت جعلني أعتقد أن حكاية موتها محطة ضرورية ينبغي الوقوف عندها في كلمة مرة أتحدث فيها عن الخلود والموت والخوف منه !

وصلتُ في هذا الموضوع إلى نتيجة مهمة هي أن كل البشر يخافون من الموت وأكثر الخائفين من الموت هم أولئك الباحثون عن الخلود، والباحثون عن الخلود كثر ومنهم الفلاسفة والكتاب والفنانون والزعماء السياسيون والفرسان وبعض العاشقين، وفي الأساطير بنى جلجامش مصيره على البحث عن تلك العشبة التي يستطيع من خلالها أن يبقى، ولو أن جلجامش وجدها لكانت الحروب التي تنشأ الآن من أجل الهيمنة والسيطرة والنفط والغاز والطوائف والديمقراطية والاستبداد هي حروب من أجل العشبة!

والغريب في الأمر أن الجميع يعرفون جيدا أن السبب وراء البحث عن الخلود هو يقينهم أن الموت هو النهاية. والنهاية تتطابق مع الموت بمفهوم الأحياء، لكنها محطة بمفاهيم الأديان، وربما تعني تفسخ الجسد بمفهوم المشرحة!

على هذا الأساس يخاف كثيرون من الموت !

إن أهم ما لفت نظري هو حقيقة السلوك الذي نقوم به ونحن نتجه إلى الموت، وسلوكنا هذا مرده إلى عجز البشرية عن إيجاد عشبة جلجامش، ولذلك نشأت ردود فعل نقوم بها تبحث عن بدائل أخرى للخلود:

الفرسان يردون على الموت بالبطولة، وكذلك يفعل الجنود في المعركة، والمرضى النفسيون يلجؤون إلى الانتحار، والمتدينون ينكفئون إلى العبادة، والسياسيون يلجؤون إلى الاستبداد، والشعراء يعكفون على كتابة الملاحم، والناس يذهبون إلى الإيمان، وواقعيا هناك وجهات نظر كثيرة في التعامل مع مسألة الخوف من الموت، فما الذي فعلته عمتي ؟!

تراجعت موارد التنور، فقد أقامت الدولة فرنا آليا في القرية، جعل الجميع يقفون بالطابور ويشترون الخبز بالربطة، فأضناها هذا القرار الحكومي، ومع ذلك ظلت تقاوم حتى مع تقدم العمر.

وفي صباح يوم ماطر شاهدها كثيرون وهي أكثر حيوية مما يعرفونها. ذهبت إلى بيت شقيقها الذي تقاعد وسكن في القرية، وأعطته 150 ليرة سورية وقالت له : يا أخي، الله أعلم بالمُقّدر، ولكن أرجوك اشتر خبزا وحلاوة وأطعم الفقراء على روحي عندما أموت . وعندما رفض عمي أخذ النقود ألحت وبكت، وقالت: هذه وصية، فرضخ وأخذها!

ثم انتقلت من بيت أخيها إلى بيت شقيقتها وأعطتها صُرة ، وفي الصُرة كفن وحنّاء وصابونة وليفة وكمشة من الكافور المعطر، وأخبرت عمتي الثانية بوصيتها المتعلقة بالغسل والكفن .

وعندما عادت إلى البيت أعطت زوجها ثلاثمئة ليرة ـ وأوصته أن يأخذ مايحتاج منها ويوزع الباقي على الفقراء، ثم دخلت إلى غرفتها، ولم تخرج منها لأن ابنتها دخلت بعد ساعة لتجدها وقد غطت جسدها بشرشف أبيض وسلّمت الروح، والغريب أن زوجها فعل الشيء نفسه في اليوم الثالث من وفاة عمتي، فلماذا لم تخف عمتي من الموت !

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى