لماذا نبّه هشام شرابي إلى رياديّة نبيه فارس؟
أكثر من مرّة تحدّث المفكّر الفلسطيني الرّاحل هشام شرابي عن د. نبيه أمين فارس، كواحدٍ من كبار رادة الفكر السياسي الفلسطيني والعربي، الذين ظلمهم الإعلام الثقافي في بلادنا، فضلاً عن عدم دراية معظم هيئات مراكز البحوث والدراسات العربية بأهمّية هذا الرجل العلميّة والإبداعيّة، كي يدبّ التنافس المُفترَض في ما بين هذه المراكز على جَمْع شتيت مؤلّفاته وترجماته وتراثه الفكري بوجه عام، ونشره من جديد.
غير أنّ البعض العارف في وسط هذه الهيئات البحثيّة والنشريّة بسيرة الرجل ونتاجه، استدركَ الأمر في آخر المطاف، فأقدَم، ومنذ العام 2008 (أي بعد ثلاث سنوات على رحيل مفكّرنا شرابي في العام 2005)، على ما كان ينبغي الإقدام عليه منذ عقود طويلة، مُصدِّرا أعماله الكاملة قي مجلّد ضخم من 1120 صفحة.
في حوارٍ مع د. شرابي كان أجراه كاتب هذه السطور في أواسط التسعينيّات من القرن الفائت ونَشَرته إحدى الأسبوعيّات الخليجيّة، قال شرابي ما مفاده، إنّه أوّل المقصّرين في حقّ المفكّر السياسي والمؤرّخ النّابه د. نبيه أمين فارس، وأنّه ينوي في معرض التعويض عن هذا التقصير، أن يلتقي بجمْعٍ من المؤرّخين العرب الثُّقاة، لا يتجاوز تعداده الأربعة، يُشكّل هو خامسهم (ككاتب سيرة تاريخية، فكرية واجتماعية)، بغية إعداد كتابٍ جامع متنّوع عن فارس، يليق بشخصه وعلمه ووطنيّته، التي جسّدها رمزاً من الرموز المؤسِّسة للفكر العروبي الحضاري، يعرض لأفكاره، وفلسفته القومية، وقراءاته التحليلية الرؤيوية للأحداث والتطوّرات في المنطقة العربية، وعلى مستوى بنية المجتمع العربي الذهنية والثقافية، حكّاماً ومحكومين.
ولمّا التقيت شرابي بعد أعوام طويلة، وتحديداً في صيف العام 2002، في مبنى “الوست هول” في الجامعة الأميركية في بيروت، (بحضور الصديق المشترك الشاعر فؤاد رفقة) وذكّرته بمشروع الكتاب المركّب أو المؤتلف عن د. نبيه أمين فارس، أجابني على الفور، أنّ وضعه الصحّي الصعب والحرج، حال دون تنفيذه فكرته هذه. وأنّه “بالكاد يُكمل هذه الأيّام كتاباً له، شرع في تأليفه منذ سنوات، ويتشكّك حتّى في القدرة على إنجازه نتيجة وطأة المرض”.
ابن بحمدون والناصرة
نبيه أمين فارس، خليط لبناني – فلسطيني بجنسية أميركية. أصله من بحمدون، المدينة الأشهر بين مُدن الاصطياف في لبنان؛ ومن مواليد الناصرة في فلسطين في العام 1906. يحمل دكتوراه في اللغات الشرقية وآدابها من جامعة برنستون في الولايات المتّحدة (1935)، وهو خبير مخطوطات عربية قديمة، ومُلمّ بالتاريخ العربي في حقَبه المختلفة، وله مؤلّفات شتّى بالعربية والإنكليزية من أبرزها: “التراث العربي” بالإنكليزية، “العرب في التاريخ”، “العاديّات في جنوب الجزيرة العربية”، “العرب الأحياء”، “من الزاوية العربية” وغيرها.. وغيرها من المؤلّفات التي تُحلّق مداليلها الثقافية في مدارات أفقه العروبي.
وبعدما كان أستاذاً لفلسفة التاريخ مدّة عشر سنوات في جامعة برنستون في نيوجيرسي في الولايات المتّحدة، من العام 1935 إلى العام 1945، قرّر العودة فجأة إلى بيروت، ليكون على مقربة ممّا يحدث في فلسطين، حيث بدايات إرهاصات ما قبل إعلان الدولة العبريّة في العام 1948. وبالفعل، عاد فارس إلى بيروت، مُلتحقاً بالجامعة الأميركية، أستاذاً لمادّة التاريخ الإسلامي، ثمّ رئيساً لدائرة التاريخ فيها، بدءاً من العام 1947، وظلّ على رأس عمله حتّى رحيله في العام 1968. أخبرني الباحث عبد الله عيسى متّى، وهو أحد أبناء أقرب معارف نبيه الأميركيّين من أصل لبناني، أنّ د. نبيه كان يتحيّن الفرص للعودة إلى العالَم العربي، وبالأخصّ إلى لبنان، ليُشارِك على طريقته في النّضال ضدّ اغتصاب فلسطين. وكان صلباً عنيداً، لا يقبل مراوغة أو التفافاً حول ما يؤمن به. وكان يتصدّى لكلّ مَن يُبرِّر سلب الأرض العربية أو يتهكّم على العرب وحضارتهم. وقد شهدتُ له اشتباكاً عنيفاً مع أكاديمي صهيوني تجاوز حدوده في شَتم الفلسطينيّين والعرب، والتحقير بهم، ووصفِهِم “بالغُزاة الهَمج الذين احتلّوا أرض أجداده اليهود منذ آلاف السنين”. ردّ عليه نبيه: “إنّكم مهرة في لَيّ عنق التاريخ والتّمادي في الخرافات التي تختلقونها، حتّى تحسبونها الحقيقة القاطعة، لكنّنا نحن العرب أصحاب الأرض والحقّ، مهما قلّت حيلتنا اليوم، فلن نسكت على محاولاتكم اغتصاب فلسطين، ما حيينا”.
على أنّ عناد نبيه أمين فارس الوطني والقومي، لم يقده يوماً إلى العُصاب واللّاعقلانية. فهو لم يُنكر، مثلاً، وجود مشكلة يهودية في العالَم؛ غير أنّ هذه المشكلة لم تكن يوماً من صُنع العرب، بل هي من صُنع الغرب كما يجزم. فبينما كان يوحنّا، مَلك الإنكليز، يُصادر أموال اليهود، ويضطّهدهم، كان صلاح الدّين يرحّب بابن ميمون ويُغدق عليه من الرعاية والحماية ما يسمح له أن يصبح أعظم فلاسفة اليهود في القرون الوسطى.
وفي رأيه أنّ تاريخ العلاقات الدّولية برمّته حتّى الآن، لم يعرف قضيّة أعظم من قضيّة فلسطين، حيث تواطأت المصالح الاستعمارية مع المطامع الصهيونية على تشتيت شعب، وسلْب وطن. كما لا يعرف التاريخ في كفاح الشعوب في سبيل حرّيتها، قضيّة تحمّلت من عبث أصحابها مثلما تحمّلته من كَيد أعدائها وأكثر.
وحول ديمومة الحقّ بفلسطين يقول فارس بالحرف الواحد: “إلى أولئك المهتمّين بالمستقبل، لا أقول إلّا أنّ على الفلسطينيّين مواصلة النضال لتصحيح الخطأ، وإزالة الضّيم، ورفع الظُّلم الذي أُجبروا على معاناته. أمّا انتصارهم كنتيجة، فأنا متأكّد منه، مع أنّ الأمر لا يتحقّق في حياتي؛ لكنّ أبنائي وأحفادي، وربما أحفاد أحفادي، سوف يدرسون يوماً القصّة عن قيام إسرائيل كفصلٍ أخر من فصول التاريخ الطويل للأرض المُقدّسة”.
هذا هو نبيه أمين فارس الذي كان هشام شرابي يُحلّق بسيرته عالياً في كلّ مرّة يُطرَح اسمه أمامه فيها؛ وقد سمعتُ من شرابي نفسه أنّه كان يراه رائياً سياسياً من طراز نادر، وخصوصاً في كتابه: “من الزاوية العربية” الصادر في بيروت في العام 1953؛ وقد أهداني شرابي نسخة من الكتاب زائدة في مكتبته، كما أهدى نسخة أخرى منها للشاعر فؤاد رفقة، والذي كانت تربطه بشرابي صداقة تاريخية متينة مبنيَّة على بُعدين عميقَين: إنسانيّ، وسياسيّ مُعتقديّ.
وللتدليل على صحّة رأي مفكّرنا الكبير شرابي، نورد ما كان كتبه د. فارس نفسه منذ منتصف القرن الفائت في الكتاب المذكور، ويبدو وكأنّه يكتبه اليوم، بل في اللّحظة عينها: “واليوم يقف العرب على عتبة النصف الثاني من القرن العشرين وقفة الحذر والحيرة والارتباك. فالنِّعم التي أُسبغت عليهم في أثناء السنين الخمسين الغابرة، مُهدّدة بالزوال، وبسمة الدهر التي حملت إليهم الاستقلال تكاد تتلاشى. فقد مُني العرب في العقد الأخير من السنين بالفشل تلو الفشل، ومزَّقت الحوادث حجاب القوّة الوهمية، الذي نسجوا لحمته من أسطورة الخمسين مليون عربي، وسداه من أسطورة الرأي العامّ الإسلامي، فبدا ضعفهم واضحاً بعدما كان خفيّاً عن أعين الناس”. ويردف نبيه فارس: “فالدّول العربية لأعجز من أن تدافع عن نفسها ضدّ أيّ طارئ، عسكري أو سياسي، ما دامت مُمزَّقة كما هي الحال. وقد جاء اجتماع الجامعة العربية الأخير دليلاً صادقاً على عدم وجود التفاهم والاتّفاق بين دُولها إلّا في مسألة واحدة، وهي اتّفاقها على الاختلاف. وستنهار هذه الدُّول كلّها وتتساقط كأوراق الخريف عند هبوب أوّل ريح دولية تعصف بالتوازن القلق القائِم في الشرق العربي؛ ولن يقوى العرب على الاحتفاظ بكيانهم واستقلالهم في النصف الثاني من هذا القرن، إلّا إذا سلكوا طريق التكتّل والاتّحاد. وقد سبق لي أن بيَّنت قبل أن اكفهرّت سماء العرب بالغيوم، في خطاب ألقيتُه في تموز من عام 1946، أنّ العرب يقفون على مفترق الطريق، يعرجون بين التكتّل والتفتّت، وبين الإقليمية والاتّحاد، وأنّ طريق الإقليمية تؤدّي إلى بلقان عربي، بينما تنتهي طريق الاتّحاد إلى ولايات متّحدة عربية على مثال الولايات المتّحدة الأميركية”.
وبعد، أليس ما قاله هشام شرابي في نبيه أمين فارس هو عَين الحقيقة؟ أليس هذا المفكّر العربي رائياً سياسياً بامتياز؟!
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)