لماذا نجزم بأن الرئيس محمود عباس لم يخطِئ حتى يعتذر للألمان والإسرائيليين؟
اختلفنا، وما زلنا، مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس حول العديد من سياساته ومواقفه، ابتداءً من اتفاق أوسلو، ومرورًا بالاعتراف بـ”دولة إسرائيل” على الأراضي المحتلة، وانتهاءً بالتنسيق الأمني وتهميش حق العودة، ولكن موقفه في رفض الاعتذار عن مقتل 11 رياضيا إسرائيليا في أولمبياد ميونخ على يد مجموعة فدائية فلسطينية (ايلول الأسود) والرد بالإشارة إلى 50 مجزرة، و50 “هولوكوست” في حقّ الشعب الفلسطيني كان موقفًا “صائبًا” ويُمثّل الملايين من أبناء الشعب الفلسطيني لأنه أصاب كبد الحقيقة، ومُوثّق تاريخيًّا وأُمميًّا.
الرئيس محمود عباس لم يُسْأل في المؤتمر الصحافي الذي عقده وإلى جانبه ولاف كلاوس، المستشار الألماني، عن رأيه بالمحرقة اليهودية، وإنما عن مقتل 11 رياضيًّا إسرائيليًّا بمُناسبة مُرور الذكرى الخمسين لحُدوثها في مدينة ميونخ الألمانية قبل 50 عامًا، وكان ردّه البليغ بالتذكير بـ”المحارق الإسرائيلية” اليومية في حقّ الشعب الفلسطيني مُفحِمًا وقويًّا، ولا يجب التّراجع عنه، أو مُحاولة توضيحه أو ترقيعه، لإرضاء المُجرمين الحافل تاريخهم بجرائم الحرب، والإرهاب والعنصرية.
من ارتكب المجزرة في حق الرياضيين الإسرائيليين في ميونخ ليس الرئيس عباس، ولا مجموعة أيلول الأسود، وإنما فرقة الموساد الإسرائيلي والشرطة الألمانية التي اقتحمت مكان احتجازهم، فهذه المجموعة كانت تريد مبادلة هؤلاء بالإفراج عن أسرى فلسطينيين في سجون الاحتلال، وجرت تصفيتهم جميعا (عددهم 5 مهاجمين)، ولكن الإسرائيليين وبدعم عُقدة الذنب الألمانية يعتبرون أنفسهم فوق القانون ويُزوّرون الحقائق بالتالي.
الرئيس محمود عباس ، ونقول للمرة المليون إننا نختلف معه، أنقذ آلاف اليهود بتبنيه للتنسيق الأمني، وتخصيص 60 ألف من رجال الأمن الفلسطينيين لحماية المستوطنين على مدى 30 عامًا، الأمر الذي يُشكّل أكبر عار في تاريخ حركات المقاومة، وتطاول يائير لابيد وليبرمان وغيرهم من المسؤولين الإسرائيليين عليه، وبأفظع الأوصاف والاتهامات، جاءت مكافأة له على هذه المواقف.
لابيد وصف تصريحات عباس بأنها مُخجلة وعار، وقال إن التاريخ لن يغفر له، واتهمه بإنكار محرقة راح ضحيّتها ستة ملايين يهودي، بينهم مليون طفل، وهذا قمّة الكذب أيضًا، فلابيد نفسه، وكل الحكومات الإسرائيلية السابقة مُلطّخة أيديهم بدماء الأطفال الفلسطينيين، وآخرهم 16 طفلًا في حرب غزّة الأخيرة، وعلى مدى ثلاثة أيّام فقط، فهم آخر من يجب أن يتحدّث عن قتل الأطفال والنساء، وكل جرائمهم مُوثّقة.
لو كنت مكان الرئيس عباس الذي تعرّض لهُجومٍ كبير من المستشار الألماني والمعارضة الألمانية، والأخيرة طالبت بطرده، لاتّهامه دولة “إسرائيل” بـ”الأبارتهايد” أي الفصل العنصري، لرددت عليهم جميعًا بالقول أنتم العنصريون الذين قتلتم اليهود وأحرقتموهم، ولعبتم دورًا كبيرًا في نكبة فلسطين بترحيل اليهود بشكل مباشر أو غير مباشر إلى فلسطين، والآن تُدافعون عن العنصرية الإسرائيلية، وتتجاهلون أنها مُوثّقة بتصويت الكنيست على قانون القومية اليهودية الذي يؤكدها، ولهذا وجب على الألمان أن يعتذروا للرئيس عباس وكل الشعب الفلسطيني، وليس العكس، المسؤولون الألمان هم اليوم قمّة النفاق والكذب عندما يتعلّق الأمر بالقضية الفلسطينية.
استخدام مصطلح المحرقة ليس ملكية فكرية لليهود فقط، رغم اعترافنا بأن “الهولوكوست” أبشع الجرائم التي حدثت في التاريخ البشري الحديث، وإنها مُدانة بأقوى العبارات، ولكن هذا لا يعني أن لا نستخدم التعبير نفسه في توصيف المحارق التي تَعرّض، ويتعرّض لها، الشعب الفلسطيني، والشعوب السورية والمصرية واللبنانية حرقًا بقنابل النابالم الحارقة التي قصفتهم بها الطائرات الإسرائيلية واستشهاد الآلاف منهم.
نعم هُناك خمسون مجزرة ومحرقة إسرائيلية ارتكبتها دولة الاحتلال الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني، ابتداءً من دير ياسين، وكفر قاسم، والطنطورة، وضد الشعب اللبناني مرّتين في مجزرة قانا، والشعب المصري في مدرسة بحر البقر، وأخيرًا وليس آخرًا، محرقة اللّطرون قرب القدس، التي جرى فيها إحراق 90 أسيرًا مِصريًّا أحياءً استسلموا بعد حرب عام 1967 بعد حصارهم، وظهرت اعترافات مُنفّذيها اليهود بالصوت والصورة قبل بضعة أسابيع فقط.
الحكومات الإسرائيلية ترتكب المجازر والمحارق، والتجويع، والحصارات، لأبناء الشعب الفلسطيني، ولم تطبّق قرارًا واحدًا للأمم المتحدة من مجموع 65 قرارًا، ولم تحترم مطلقًا توقيعها على أيّ اتفاق مع الفلسطينيين بما في ذلك اتفاق أوسلو المُهين الانهزامي الذي أعطاها أكثر من 80 بالمئة من أرض فلسطين التاريخية مُقابل حُكم ذاتي لقيط، ولهذا فإنّه ليس من حقّ جميع المسؤولين فيها إنكار المحارق والهوان والإذلال الذي لَحِقَ ويلحَق بالشعب الفلسطيني.
كُنّا نتمنّى لو أن الرئيس عباس اتّخذ مثل هذه المواقف الوطنية الأخلاقية قبل ثلاثين عامًا، ولم ينخرط مُطلقًا في مُفاوضاتٍ عبثيّة، ويُراهن على إمكانيّة تحقيق السّلام مع كيان قاتل عنصري، ولكن لعلّها صحوة وإن جاءت مُتأخّرة، لتُكَفِّر عن الكثير من ذُنوبه، وأن تأتي مُتأخّرة خير من أن لا تأتي أبدًا.
الشعب الفلسطيني عاد إلى ينابيعه الأولى وأدرك أن المُقاومة هي الطريق الوحيد لاستعادة حُقوقه كاملة، بعد أن فَشِلَ الرّهان على كُل الحُلول السلمية، والقرارات الدولية، ولعلّ ما يحدث حاليًّا في نابلس وجنين وطولكرم وغزّة، الدّليل الأكبر الذي يُؤكّد ما نقول.. والأيّام بيننا.