لماذا نعتقد أنّ خِطاب القائد السنوار جاء “إعلان حرب” وبداية مرحلة ونهاية أخرى؟
استمعت إلى خِطاب رئيس حركة حماس في قِطاع غزّة القائد يحيى السنوار وتابعت مُعظم ردود الفعل الإسرائيليّة عليه، بِما في ذلك رد نفتالي بينيت رئيس الوزراء الإسرائيلي، واستطيع أن أقول، وبكُل موضوعيّة، أنني لم أستمع إلى خِطابٍ فِلسطينيّ مثله مُنذ ثلاثين عامًا، وبالتّحديد مُنذ توقيع اتّفاق أوسلو “المُعيب” الذي حرَفَ قضيّتنا عن مسارها الصّحيح والمُشرّف، وبتّ أكثر تفاؤلاً بنهاية الاحتِلال من أيّ وقتٍ مضى.
القائد السنوار كان يتحدّث باسم الأمّتين العربيّة والإسلاميّة، والشّرفاء فيهما على وجه التّحديد، وليس باسم حركة “حماس” فقط، أو أذرع فصائل المُقاومة الأخرى العسكريّة، حيث ردّ الاعتِبار وبقُوّةٍ، إلى ثقافة المُقاومة، وسمّى الأُمور بأسمائها الحقيقيّة، وأدان بقُوّة كُل من وصفهم بـ”الخونة” المُتواطئين مع الاحتِلال، سواءً داخِل فِلسطين المحتلّة، مِثل منصور عباس، رئيس القائمة المُوحّدة، التي تُوفّر مظلّة الأمان لحُكومة بينيت، وتعترف بيهوديّة إسرائيل، وتنفي عنها صفة العُنصريّة، أو المُطبّعين في المُحيط العربي الذين ارتَموا في أحضان الاحتِلال، ووقّعوا معه مُعاهدات دفاع وتنسيق أمني مُشترك وحوّلوا الشّعب الفِلسطيني إلى عدوٍّ والإسرائيلي إلى صديق.
***
خِطاب السنوار كان بمثابة “إعلان حرب” والعودة بقُوّة إلى الثّوابت، وإبقاء سيف القدس ممشوقًا، وقُبول التحدّي الإسرائيلي بالنّزول إلى ميدان الحرب الدينيّة إذا أرادوا ذلك، واستمرّوا في اقتِحاماتهم للمسجد الأقصى وساروا قُدُمًا في خططهم لتقسيمه زمانيًّا ومكانيًّا.
هذا الخِطاب جاء استكمالًا لخِطاب تاريخي للأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله ألقاه يوم الجمعة الماضي بمُناسبة اليوم العالمي للقدس الذي أكّد فيه أن زوال المسجد الأقصى وكنيسة القيامة هو زوال لدولة الاحتِلال الإسرائيلي، مثلما جاء ليُؤكّد الانتماء إلى محور المُقاومة ونهجه، بل ولمسنا مُحاكاة مُتطابقة لتجربة “حزب الله” وخطابيها السّياسي والإعلامي.
الوفاء كان أحد أبرز عناوين هذا الخِطاب، الوفاء لإيران، ومُرشدها، ورئيسها، وجميع المسؤولين فيها الذين دعموا المُقاومة بالصّواريخ والمُسيّرات، وأسباب القوّة، والوفاء للرئيس الشهيد ياسر عرفات عندما أكّد أن “الرّشقة” الأولى من الصّواريخ ستشمل 1111 صاروخًا ستضرب العُمُق الإسرائيلي تخليدًا لذِكرى استِشهاده، ولم ينس شيخ الأزهر، ومُفتي سلطنة عُمان اللذين وقفا في خندق مُقاومة الاحتلال، ورفضَا التطبيع، ولم يذكر “مُتَعَمِّدًا” أسماء مشايخ آخرين، وهذه رسالة واضحة وقويّة تعني الكثير.
دعوته للشّعب الفِلسطيني، وفصائله، في جميع المناطق المُحتلّة، وفي الشّتات، للاستِعداد للمعركة الكُبرى، والتحلّي بالجاهزيّة الكاملة عسكريًّا، ومعنويًّا، جاء تأكيدًا لنهاية مرحلة، وبداية أُخرى، وتغيير جذري لقواعد الاشتباك وإسقاط جميع الخُطوط الحمراء الحاليّة.
القائد السنوار عندما يُؤكّد أن المعركة لمُواجهة الاحتِلال لن تنتهي بنهاية شهر رمضان المُبارك، يعني ما يقول، ويُهَدِّد من موقع قوّة، ويُغلق الأبواب أمام جميع وسطاء التّهدئة، أليس هو، والمُجاهد محمد ضيف، قائد كتائب القسّام اللّذان أطلقا أكثر من 4200 صاروخ أثناء معركة “سيف القدس” في الموعد المُحَدَّد بالدّقيقة والثانية الذي حدّدانه، انتصارًا للمسجد الأقصى في وجه الاقتِحامات الإسرائيليّة ونُصرةً لأهل الرباط في بيت المقدس وأكناف بيت القدس؟ أليس هذا تلويحًا صريحًا بأنّ النّسخة الثانية والأقوى لمعركة “سيف القدس” الثّانية باتت وشيكةً جدًّا؟
تعالت الأصوات في الإعلام والمُؤسّسات الأمنيّة الإسرائيليّة تُطالب باغتيال القائد السنوار، وتبكي ندمًا ودمًا لأنّه جرى الإفراج عنه بعد اعتِقالٍ امتدّ لأكثر من 22 عامًا، لأنه يقف خلف تغييرات جذريّة في السّاحتين الفِلسطينيّة والدوليّة حسب رأيهم، وكأنّ الإفراج عنه كان منّةً وتفضيل، وليس في صفقة تبادل رضخت دولة الاحتِلال مُكرَهةً لجميع شُروطها المُذلّة.
القائد السنوار، وكُل رفاقه، يتمنّون الشّهادة، ويتطلّعون إليها، وبأسرعِ وقتٍ مُمكن، ومثلما جاءت عمليّة اغتيال الشّهيد عبّاس موسوي بالسيّد حسن نصر الله، ومُواصلة مسيرة المُقاومة بشَكلٍ أقوى، وتكلّلت بتحرير جنوب لبنان، وانتِصار حرب تمّوز، سيأتي من سيخلف السنوار، لا قدّر الله، ويُواصل المسيرة، فالرّحم الفِلسطيني ولّاد للقِيادات المُبدعة والصّلبة والأكثر تَشَدُّدًا في الحِفاظ على الثّوابت ونُصْرَةِ الحق.
إنّه خطابٌ يُذكّرنا بخِطابات السيّد نصر الله، خطاب تعبوي “مُجمّع”، يُكرّس الوحدة الوطنيّة الفِلسطينيّة من النّهر إلى البحر، ويُحَقِّق المُصالحة على أرضيّة المُقاومة وليس على أرضيّة التّهدئة والتّنسيق الأمني والديمقراطيّة الوهميّة الخانعة المُستوردة والمُضلّلة، واستِجداء المُساعدات الماليّة حتى من العدوّ، وتكبيل الأجيال القادمة بدُيونه الباهظة.
توقّفت كثيرًا عند الفقرة التي وردت في الخِطاب، وقال فيها القائد السنوار “إن كسر الحِصار عن قِطاع غزّة، والشّعب الفِلسطيني، لم يَعُد مطلبًا بل قرارًا جرى اتّخاذه، وجاري تنفيذه، والعُنوان الأوّل إقامة خط بحري من غزّة وإليها، وبالتّنسيق مع محور المُقاومة”، وهذا يعني مثلما فهمت أنه سيتم فرض هذا الخِيار بقُوّة الصّواريخ والمُسيّرات، وعلينا أن نتوقّع مُفاجآت صادمة لدولة الاحتِلال في الأيّام المُقبلة.
***
ختامًا نقول إن الغرب وأتباعه العرب أنفقوا مِئات المِليارات من الدّولارات لـ”تخدير” الأمّتين العربيّة والإسلاميّة وتسويق السّلام المسموم الكاذب، وفرض الاستِسلام على الشّعب الفِلسطيني، بحُجّة تخلّي العرب والمُسلمين عنهم، وليس أمامهم إلا رفع الرّاية البيضاء والقُبول بإملاءات الاحتِلال، وها هي هذه النظريّة تسقط بمعركة “سيف القدس” الأولى، والهجمات التي استهدفت المُستوطنين وأدّت إلى مقتل 15 منهم حتى الآن وإصابة العشَرات، وبث حالة من الذّعر والرّعب.
تذكّروا مضمون هذا الخِطاب جيّدًا لأنّ كُل ما ورد فيه سيتم ترجمته على الأرض، وتذكّروا أيضًا جُملة السيّد نصر الله التي قال فيها “زمن الرّد في الزّمان والمكان المُناسبين” قد انتهى إلى غيرِ رجعةٍ، وسيتم الرّد فورًا وسريعًا على أيّ عُدوان إسرائيلي في العُمُق السوري، فهذا الخِطاب في رأينا المُتواضع يجبّ ما قبله.. والأيّام بيننا.
صحيفة رأي اليوم الألكترونية