افتتاحية الموقع

لماذا هذا الاهتمام الغربي والعالمي المفاجئ بسوريا بعد طول غياب؟

ماهر عصام المملوك

منذ أكثر من عقدٍ من الزمن، وسوريا تعيش واحدةً من أعقد المآسي الإنسانية والسياسية في التاريخ الحديث. منذ عام 2011، حين انطلقت شرارة الثورة السورية، والعالم بأسره يراقب بصمتٍ مريب مشاهد القتل والتدمير والتهجير التي عصفت بالبلاد، حتى تحولت سوريا إلى مسرحٍ مفتوحٍ لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية، دون أن يلتفت أحدٌ فعلاً إلى مأساة شعبها أو معاناته الممتدة.

واليوم، وبعد سنوات من الغياب والتجاهل، نشهد فجأةً عودةً لافتة للاهتمام الدولي بسوريا، إعلامياً وسياسياً واقتصادياً. فما الذي تغيّر؟ ولماذا هذا الاهتمام المفاجئ بعد أن أصبحت البلاد شبه أطلال؟

والسؤال الذي يطرح نفسه هل هذا التوقيت بريء؟

في حين نبحث في خلفيات هذا “الاهتمام”، يتضح أن المسألة أبعد من مجرد تعاطفٍ إنساني أو رغبةٍ غربية في دعم الشعب السوري. فالغرب، الذي ترك السوريين يواجهون مصيرهم لعقدٍ من الزمان، لم يستيقظ فجأة على ضميره الإنساني. المسألة في جوهرها سياسية وجيوستراتيجية بامتياز.

فالاهتمام الحالي يأتي في لحظةٍ مفصلية من التحولات الإقليمية والعالمية: الحرب الروسية الأوكرانية، الصراع الأمريكي الصيني، والتبدلات في ميزان القوى في الشرق الأوسط. وسوريا، بموقعها الجغرافي الفريد بين آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، تمثل حجر الزاوية في أي إعادة رسمٍ جديدة لخريطة النفوذ في المنطقة.

لاشك في ان واشنطن تعيد حساباتها، فقبل عامين فقط، كانت الولايات المتحدة تتحدث عن “انسحابٍ منظم” من سوريا والإبقاء على قوات رمزية شرق الفرات، دون نية في البقاء طويلًا. لكن المشهد تغيّر كلياً. فاليوم نراها تعيد نشر قواتها، وتكثّف نشاطها الدبلوماسي في المنطقة، وتعيد فتح قنوات مع أطراف سورية وإقليمية كانت تُعتبر “خارج الحساب”.

السبب؟ هو الصراع المتصاعد مع روسيا وإيران. فواشنطن تدرك أن ترك الساحة السورية يعني تسليمها بالكامل لهاتين القوتين، ما يعني تهديداً مباشراً لمصالحها في شرق المتوسط، ولممرات الطاقة وخطوط الاتصال بين العراق والأردن والخليج. وبالتالي، فإن “العودة إلى سوريا” ليست حباً بالشعب السوري، بل خشيةً من خسارة موقع استراتيجي حساس أمام خصومها التقليديين.

فنجد هنا ان  روسيا وإيران الحليفان المتعبان يتخبطان في علاقتهما الدولية كما تواجه روسيا بالتحديد  اليوم مأزقاً اقتصادياً وعسكرياً بعد حربها الطويلة في أوكرانيا.

هذا الواقع جعل من الصعب عليها الاستمرار بالوتيرة نفسها في دعم النظام السوري. أما إيران، الغارقة في أزماتها الداخلية والاقتصادية، فقد بدأت تخفف من حضورها العسكري المباشر، مركّزةً على النفوذ الأمني والعقائدي.

هذا الضعف التدريجي للحليفين الرئيسيين لبشار الأسد فتح الباب أمام القوى الغربية والعربية لمحاولة “ملء الفراغ”، أو على الأقل إعادة التموضع في المشهد السوري تمهيداً لمرحلة ما بعد الأسد، أو لإعادة تشكيل النظام بما يخدم توازنات جديدة في المنطقة.

فالاهتمام المفاجئ بسوريا لا ينفصل أيضاً عن الحسابات الاقتصادية. فبلاد الشام تمثل معبراً رئيسياً للطاقة بين الشرق والغرب، وهي عقدة طرق استراتيجية لمشروعات الغاز والنفط، خصوصاً مع مشاريع الربط بين الخليج وتركيا وأوروبا.

ومن هنا بدأنا نسمع حديثاً متزايداً عن “إعادة إعمار سوريا” و“العودة إلى دمشق”، ليس بدافع إنساني، بل لأن القوى الكبرى  الغربية والعربية والإقليمية بدأت ترى في هذه العملية سوقاً استثمارية ضخمة، يمكن من خلالها اقتسام الغنائم وإعادة النفوذ.

واللافت في الأسابيع الأخيرة أن معظم وسائل الإعلام الدولية بدأت تخصص حيزاً واسعاً للأخبار السورية: تقارير عن الاقتصاد، وعن الأوضاع الإنسانية، وعن تحركات سياسية “مفاجئة”. هذا ليس مصادفة. الإعلام الغربي يعمل عادة كأداة لتهيئة الرأي العام قبل أي تحرك سياسي أو اقتصادي كبير.

وحين نرى هذا الكم من التغطية المفاجئة، نعرف أن ثمة ترتيبات تجري في الكواليس: ربما اتفاقات سرية، أو إعادة توزيع للأدوار والنفوذ بين القوى الكبرى، أو حتى تحضير لمؤتمر دولي جديد يعيد إنتاج النظام السوري بصيغة “معدّلة” تُرضي الجميع ما عدا السوريين أنفسهم.

فالحديث الغربي المتزايد عن “حقوق الإنسان في سوريا” و“معاناة اللاجئين” يبدو جميلاً في الخطاب، لكنه غالباً ما يُستخدم كغطاء سياسي لتبرير التدخل أو الضغط أو فرض النفوذ. فالغرب لم يتحرك لإنقاذ السوريين عندما كانت براميل النظام تدك المدن، ولا حين استخدمت الأسلحة الكيميائية، ولا حين غرقت آلاف العائلات في البحر هرباً من الجحيم.

اليوم فقط، بعد أن استقرت خطوط التماس، وبعد أن تبلورت المصالح الجغرافية، عاد “الضمير العالمي” إلى الحياة. لكنها إنسانية مشروطة، وانتقائية، تخضع لمنطق المصالح لا القيم.

والحقيقة هي ان ما وراء الأكمة ماوراها وليس من الصعب استنتاج أن ما يجري اليوم هو جزء من مشروع أوسع لإعادة رسم خرائط المشرق العربي. فالاتفاقات الإقليمية، والتقارب بين بعض دول الخليج وتركيا وإيران، والتحولات في الموقف الإسرائيلي، كلها مؤشرات على أن مرحلة جديدة تُرسم الآن على الورق وفي الميدان.

وسوريا هي البوابة التي ستُعاد عبرها صياغة “بلاد الشام الجديدة” بحدودٍ واقعية ونفوذٍ متداخل يتجاوز سايكس بيكو القديمة التي لم تعد صالحة لعصر التوازنات المتبدّلة.

وختاماً فالاهتمام الغربي والعالمي المفاجئ بسوريا ليس وليد لحظة، بل هو نتاج مخطط طويل الأمد تمت دراسته بعناية منذ ربع قرن على الأقل. سوريا ليست سوى الحلقة الأولى في مشروع أكبر يهدف لإعادة توزيع النفوذ في المشرق، وضبط التوازن بين القوى الإقليمية القديمة والجديدة.

أما السوريون، الذين دفعوا ثمن الصراع الأكبر في القرن الحادي والعشرين، فما زالوا خارج الحسابات الحقيقية، يُستدعون إلى المشهد فقط عندما تتطلب الصورة وجود “الضحية” لتجميل ملامح اللعبة الدولية.

وبينما يتحدث العالم اليوم عن “سوريا الجديدة”، يعرف السوريون أنفسهم أن ما يجري ليس اهتماماً صادقاً، بل جولة جديدة في مسلسل طويل عنوانه الحقيقي: من يملك القرار في بلاد الشام ؟

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى