لماذا يتسارع التقارب المِصري الإيراني هذه الأيّام؟ …
يبدو أن السّلطات المِصريّة تُجري حاليًّا و”بهُدوء” مُراجعات جذريّة لسياستها الخارجيّة خاصّةً مع دول الجِوار الشّرق أوسطي، والتخلّص بشَكلٍ مُتسارع من “قيود” أمريكيّة في هذا الصّدد، ولعلّ التقارب المِصري الإيراني المُتصاعد أحد أبرز فُصول هذه المُراجعات.
قبل التوسّع في هذا المِلف لا بُدّ من الإشارة إلى أن هذه العلاقات توتّرت بعد نجاح ثورة الإمام الخميني في الوصول إلى الحُكم في طِهران، وعلى أرضيّة توقيع اتّفاقات كامب ديفيد مع دولة الاحتِلال الإسرائيلي، استضافة مِصر لشاه إيران السّابق محمد رضا بهلوي بعد أن أغلقت الولايات المتحدة وجميع العواصم الأوروبيّة الأبواب في وجْهه، واحتفاء الدولة الإيرانيّة باغتيال الرئيس أنور السّادات.
إيران، وفي زمن حُكم الرئيس حسني مبارك حاولت ترميم العلاقات مع القاهرة، وتجاوبت مع أحد أبرز الشّروط المِصريّة، أيّ إزالة اسم خالد الإسلامبولي الذي لعب الدّور الرئيسي في اغتِيال الرئيس أنور السادات من أحد شوارعها، مثلما أزالت أيضًا جداريّة تُمجّد اسمه وسيرته، ولكن هذه المُبادرة الإيرانيّة لم تُلق أيّ رد إيجابي من السّلطات المِصريّة، مُجاملةً لحُلفائها في الخليج، وخاصّةً المملكة العربيّة السعوديّة ودولة الإمارات العربيّة المتحدة اللّتين دعمتا الاقتصاد المِصري بما يَقرُب 92 مِليار دولار في الأعوام العشرة الماضية.
استعادة السعوديّة علاقاتها مع إيران، والتوصّل إلى اتّفاقٍ بتسوية الخِلافات بين البلدين وإعادة الإمارات فتح سفارتها في طِهران وضع السّلطات المِصريّة في وضعٍ حرجٍ للغاية، وهذا ما يُفسّر إجرائها اتّصالات سريّة، ومُصافحات علنيّة بين وزيريّ خارجيّة البلدين، أيّ إيران ومِصر على هامِش اجتماع عُقد في العاصمة الأردنيّة عمّان، وهُناك تقارير إخباريّة تتحدّث عن إجراءِ جولةٍ من المُباحثات الثنائيّة بواسطة السيّد محمد شيّاع السوداني رئيس وزراء العِراق في شهر تمّوز (يوليو) المُقبل في بغداد لإعادة العلاقات وفتح السّفارات.
الأمر المُؤكّد أن هذه الاتّصالات المِصريّة الإيرانيّة تُثير غضب الولايات المتحدة الأمريكيّة التي تُقدّم مُساعدات سنويّة للخزينة المِصريّة تزيد عن مِلياريّ دولار، كما أنها لن تهبط بردًا وسلامًا على قلب دولة الاحتِلال الإسرائيلي التي تعتبر أن إيران وأذرعها العسكريّة الحليفة تُشكّل تهديدًا وجوديًّا لها في ظِل اقترابها (أيّ إيران) من إنتاج أسلحة نوويّة، وتطوير صناعاتها العسكريّة خاصّةً في مجالات الصّواريخ والمُسيّرات.
القِيادة المِصريّة تعيش حالةً من الغضب “المكتوم” تُجاه الحليف الأمريكي، الذي لم يُساعد بلادها في تجاوز الأزمة الاقتصاديّة، ومُمارسة ضُغوط على إثيوبيا لوقف تهديدها لأمنها المائي، من خِلال ملء خزّانات سدّ النهضة بكميّاتٍ هائلةٍ من المِياه يُمكن أن تُقلّص حصّة مِصر، وتُؤدّي إلى جفاف ملايين الهكتارات الزراعيّة علاوةً على تقليص كميّة الكهرباء التي يُولّدها السّد العالي.
التمرّد على الحليف الأمريكي من قِبَل القِيادة المِصريّة انعكس في عدّةِ خطوات:
الأولى: رفض مِصر طلب أمريكي بإغلاق أجوائها في وجه طائرات عسكريّة روسيّة ومعدّات تستخدمها (الأجواء) في نقل أسلحة ومعدّات عسكريّة إلى القواعد العسكريّة الروسيّة في سورية.
الثانية: تردّد أنباء بعزم مِصر تزويد روسيا بصواريخ لتعويض خسائر جيشها في الحرب الأوكرانيّة، ورغم نفي السّلطات المِصريّة لهذه الأنباء، إلّا أن هُناك من يُذَكّر بأنّه “لا يُوجد دُخانٌ بُدون نار”، وأن مُؤسّسة الإنتاج الحربي المِصريّة تلقّت أوامر في هذا الصّدد.
الثالثة: تَقَدُّم الحُكومة المِصريّة بطلبٍ للانضمام إلى منظومة “بريكس” التي يقودها التحالف الصيني الروسي، وتسعى لبناء نظامٍ ماليّ وسياسيّ بديلٍ للنظام الأمريكي، وإصدار عُملةً بديلةً للدّولار.
هذه المُراجعات المِصريّة تأتي على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة، وإن كانت قد تأخّرت لأنّها “تُحَرّر” مِصر من قيود التبعيّة للولايات المتحدة الأمريكيّة، وتُعطي دبلوماسيّتها مجالًا أوسع للتحرّك على السّاحتين الشّرق أوسطيّة والعالميّة.
مُعاهدة الصّداقة الأمريكيّة المِصريّة التي جاءت لحِماية إسرائيل بالدّرجة الأولى ألحقت أضرارًا كبيرةً بمِصر، وأضعفت دورها الإقليميّ والدوليّ مُقابل حفنة من المُساعدات يذهب نِضفها لشِراء معدّات وقطع غيار، وصيانة الأسلحة الأمريكيّة الصّنع، وقد حانَ الوقت للتخلّص منها، والانضِمام للنظام العالمي الجديد الروسي الصيني الذي يأتي على حِساب النظام العالمي الأمريكي القديم الذي بدأ يَلفُظ أنفاسه الأخيرة.
الانفتاح على إيران، وقبلها سورية وروسيا والصين هو الخِيار المِصري الأفضل، لأنّ نظريّة الرئيس الراحل محمد أنور السادات بالرّهان على أمريكا باعتِبارها تملك 99 بالمِئة من أوراق الحل والقوّة في الشّرق الأوسط كانت خاطئة، وإن لم تكن كذلك فقد انتهى عُمرها الافتراضي مُنذ عُقود، ودليلنا على ذلك أن جميع الدول العربيّة التي طبّعت العلاقات مع “إسرائيل” مِثل مِصر والأردن، وأخيرًا السودان، تعيش أزمات اقتصاديّة صعبة جدًّا، أمّا الدول التي وقّعت اتفاقات “سلام أبراهام” تحت ضُغوط وتهديدات حُكومة دونالد ترامب وصِهره كوشنر، فبدأت تُدرك خُطورة خطواتها هذه في ظِل التقارب السعودي الإيراني، وعودة سورية للعمل العربيّ المُشترك وبدأت تتباطأ في خطوات التّطبيع، وتبحث عن مخارجٍ حِفاظًا على أمنها القوميّ.
مِصر مُقدمة على خطواتٍ شُجاعةٍ للتخلّص من الهيمنة الأمريكيّة، ولهذا يجب أن تحظى بالتّشجيع والدّعم في هذا المجال وأوّلها إعادة العلاقات مع إيران وسورية وتوثيقها مع روسيا، وليشرب الأمريكان وحُلفاءهم في تل أبيب من البحر المتوسّط أو البحر الأحمر إذا كانوا لا يستسيغوا طعم الأوّل.
صحيفة رأي اليوم الألكترونية