لوركا المُتحدِّر من عائلة عربيّة عريقة
يؤثّر فينا فعلاً أن نقرأ ما كتبه لوركا في رسالة شخصيّة إلى عائلته في 22 تمّوز(يوليو) العام 1929 حين كان في إيدين ميلز فيرمونت، المكان الأجمل في الولايات المتّحدة، الواقع قرب بحيرة في الغابة الشماليّة، حيث دعته وصديقه فيليب كوميننغز سيّدتان عجوزان ذكيّتان وعازبتان، لشرب الشاي الذي تناولا منه خمسة عشر فنجاناً، بينما العازبتان تستمعان إلى قصائده التي ترجمها لهما فيليب، و”قلت لهما إنّي أتحدّر من عائلة عربيّة عريقة جدّاً”.
فضلاً عن الشعور العفوي للوركا بالانتماء إلى العرب، يؤثّر فينا بالقدر ذاته أن نقرأ بيت الشعر الذي يعني الكثير، والمأخوذ من قصيدة عنوانها “موضوع ذو تغيّرات ولكنْ بلا حلّ”، الموقَّعة في كانون الأوّل (ديسمبر) من العام 1917، والتي لم تُنشر قبل العام 1997، وذلك في كِتاب “الآثار الكاملة” الذي أصدره ورثته في برشلونة.
إذا كان عشق فيديريكو غارثيا لوركا للحضارة العربية معروفاً في بلدان كثيرة، فإنّ تقديره للإسلام كدين، واطّلاعه على مضمون الرسالة النبوية الشريفة، ما زال موضوعاً لم يُدرس، وهو يفتح مجالات عديدة للبحث في إنتاج شاعر الإنسانية العظيم، الذي ترك لكلّ شعوب العالَم إرثاً أدبيّاً خالداً، ولاسيّما ديوان “قصائد غجريّة”، قمّة قِمَم هذا الإرث، والمُترجَم إلى 45 لغة.
ما بين عامَي 1922 و1929، نقع في بعض الرسائل المكتوبة إلى أصدقائه أو عائلته، على ذكر العرب الإسلام والموريسكيّين. تستوقفنا من بين الرسائل، تلك التي كتبها، في الأوّل من تمّوز (يوليو) عام 1922، إلى المؤرّخ ميلتشور فرنانديز ألماغرو، القاطن في مدريد، وإلى الشاعر خورخي غيين، العائدة بتاريخها إلى 27 كانون الثاني (يناير) من العام 1926؛ بحيث تجسِّد حروف الرسالتَين بوضوح حبّ لوركا الكبير للثقافة العربية الإسلامية، وخصوصاً الغرناطية منها، وإحساسه العميق بنبض الروح الدفينة للقرى المسربلة بذكرى العرب المسلمين، وبما كانت عليه الأندلس كلّها، وذلك بحسب ما عبَّر عن ذلك في قصائد عديدة مؤثّرة من شعر الصبا الذي نشره ورثته في أواخر القرن الماضي.
في الرسالة الأولى يخبر فيديريكو الماغرو أنّه يفكّر بكتابة أثر غامض، تظهر فيه جبال ونجوم؛ “وأن أنتشل من الظلّ بعض طفلات عربيّات ليلعبْنَ في تلك القرى”….. “كفانا كتابة عن قشتالة”.
ويُسِرّ لوركا إلى ألماغرو أنّه وأصدقاءه في مجموعة “الرينكونثيو” – أي الزاوية الصغيرة- الذين يرتادون مقهى الأميدا في غرناطة، يفكّرون ببناء رباط في مزرعة الزوبيا (تقع على بعد خمسة كلمترات من غرناطة) التي يملكها فرنسيسكو سوريانو، وذلك تكريماً لابن طفيل ولاثنَين أو ثلاثة آخرين من عباقرة الثقافة العربية الغرناطية.. “وسيكون ذلك أوّل ذكرى تحيّة في إسبانيا تكريماً لهؤلاء الرجال العظام، الغرناطيّين الأصيلين، الذين يملأ ذكرهم عالَم الإسلام”.. و”كلّنا مأخوذون بالفكرة، ونفكّر بدعوة علماء مسلمين من كلّ الشرق ليأتوا إلى غرناطة”. وكما في العديد من تلك المناسبات، لم تتحقّق رغبة تلك المجموعة المثقّفة والمتأثّرة برؤية الشاعر والمفكّر والديبلوماسيّ أنخيل غانيفيت، الذي كان يعتقد أنّ قصر الحمراء هو فعل إيمان، وأنّ غرناطة يجب أن تُحافِظ على روحها الأصيلة مع تطلّعها إلى أوروبا.
ظلّت المجموعة تفكّر في إحياء التراث الأدبي العربي الغرناطي: في رسالة موجَّهة إلى رئيس البلدية في 16 آذار (مارس) من العام1927 (المسودّة واردة في رسائل لوركا وفيها تصحيحات بخطّه)، نقرأ أنّ المجموعة تفكّر في أن تنشر أربعة إصدارات لكلاسيكيّين غرناطيّين، من بينها كُتيّب:”رحلات إلى غرناطة”، و”مختارات من قصائد الشعراء العرب الغرناطيّين”.
أمّا في الرسالة الثانية الموجَّهة إلى غيين، فنحن نتعرّف إلى فيديريكو المتوحّد مع ذكرى التاريخ العربي، والذي تتطلّع عيناه بتأثّر إلى كلّ ما هو موريسكي، ويشاهده خلال تجوّله في قرى غرناطة وبلداتها: الغريب أن غيين لم يشر إطلاقاً إلى ذلك في التقديم الذي وقّعه للأعمال الكاملة للشاعر التي صدرت في العام 1968، وإنّما على العكس من ذلك، نفى تأثّر لوركا بما هو عربيّ. المهمّ في تلك الرسالة، أنّ فيديريكو يروي للشاعر تفاصيل عن زيارته مع بعض الأصحاب جبال البشارات، التي شملت قرية باينار، الأعلى في إسبانيا، المليئة بغاسلات ثياب يغنّين ببراءة.
وهناك يميّز لوركا بين عرقَين “العرق الشمالي الغاليثي، الأستورياني…إلخ، والموريسكي الذي يحافظ على ملامحه بنقاء كبير: “رأيتُ ملكة سبأ تفرط حبوب الذرة على حائطٍ لونه (كلمة غير مقروءة بوضوح) وبنفسجيّ، ورأيتُ ابن ملك متنكّراً بثياب حلّاق”. وخلال الرحلة ذاتها، زار الأصدقاء المتنقّلون بسيّارة فيات، بلدة كالاهورا، أي قلعة الحرّة التي انتقلت إليها أمّ الملك أبي عبد الله، بعدما تزوّج مولاي حسن الجارية الإسبانية التي سمّاها ثريا.
“زُرنا في طريق العودة مدينة وادي أش الأسقفية والكئيبة. ولدى مرورنا في شارع سانتا ماريا دي لا كابيزا، وهو ذو طابعٍ إسبانيّ محض، رأينا بيت الزغل، الذي ما زال على حاله الأولى تقريباً، والموريسكيّ الطّابع والتصميم”.
كثيرة هي العناوين والتفاصيل الصغيرة الكاشفة، الواردة في صفحات وأبيات مؤثِّرة وقّعها فيديريكو غارثيا لوركا، والتي تنمّ عن عشقه لغرناطة النصريّة(نسبةً إلى بني نصر، أو النصريّين، أو بني الأحمر وهي أسرة حكمت غرناطة في أواخر العصر الإسلامي في الأندلس حتّى سقوط غرناطة)، وعن تأثّره العميق بتاريخها، فضلاً عن معرفته بأحداثها مذ كان طفلاً في الغوطة، ومراهقاً وشابّاً في غرناطة، في التاسعة عشرة من عمره.
يضيق المجال هنا للكتابة بإسهاب في هذا الموضوع، لكنّنا نشير على سبيل المثال لا الحصر إلى الغوطة، حيث كان أبوه يملك ثلاث مزارع شاسعة، اثنتان منها تحملان اسماً عربيّاً، الصخيرة والديموز. في تلك الأراضي يتعرّف لوركا إلى قلق العربي الإسباني في عيون الفلّاحين المُتعبين العائدين مساء من الحقل:
“عرب متنكّرون ينتظرون بإصرار
العودة البطوليّة لابن أميّة المُقاوِم
الذي سيأتي من الجبل ملوّحاً الراية
بيدَيه الناريّتين”.
وكما تعرّف فيديريكو في الغوطة إلى الكنه العربيّ المُسلم للأرض وإنسانها، وأرّخ له في أبياته، فقد تعرّف كذلك، بتأثّر بالغ وإحساس مرهف، إلى ماضي غرناطة العربي وتوحّد معه، فيذكر في أبياتٍ مؤثّرة عظمة حضارة يرثي غيابها، وكأنّه أحد أبنائها:
“أنتِ التي كان لكِ في الزمان الغابر فيوض أزهار
حشود محاربين بيارقهم في الريح مرفرفة،
مآذن مرمريّة وعمامات من حرير”.
تستوقفنا من خلال هذه الأبيات ثقافة لوركا التاريخية الغرناطية، ويؤثّر فينا ذكره لابن أميّة المُقاوم، ويبدو لنا واحداً من الفلّاحين الذين ينتظرون عودته، ويؤثّر فينا إحياؤه لتفاصيل حضارية نصرية، يوردها فيديريكو بتأثّر وإحساس مرهف. ونكاد كذلك نسمع صوته الغريب الساحر يقرأ بحنان أبياتاً يوحّدنا مضمونها بفخر مع تاريخ لنا راح، يتغنّى بعظمته فيديريكو غارثيا لوركا أحد أعظم شعراء القرن العشرين الذي قال: “سعداء هُم الذين يؤمنون مع محمّد”.
نشرة أفق ( تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)