لو أن أحدا دق الخزان!
لم يبق تساؤل “أبو الخيزران” في رواية رجال تحت الشمس لغسان كنفاني: لماذا لم يدقوا جدار الخزان؟، مجرد تساؤل في رواية حملت الهم الفلسطيني، فقد خرج هذا التساؤل الذي يعود إلى عام 1963 من بين السطور، وأصبح شعارا للموت سرا والموت قهرا والموت لجوءا.
قصة الرواية التي يعرفها أغلب القراء العرب تروي قصة ثلاثة فلسطينيين من أجيال مختلفة الكهل أبو قيس والشاب أسعد والصبي مروان في طريقهم للوصول إلى الكويت سعيا وراء مصدر رزق يحقق لهم العيش بكرامة، ولا سبيل للوصول إلى الكويت إلا عبر التهريب المتكرر والذي كان الوسيلة الوحيدة لدخول الكويت عن طريق البصرة في شهر آب، ولارتفاع أسعار المهرب البصري المحترف وقلة ما بحوزتهم يلجأون إلى سائق فلسطيني يقود خزان مياه عبر الحدود يتفق معهم على إيصالهم إلى الكويت على أن يختفوا في جحيم ظهيرة آب في الخزان لمدة أقصاها سبع دقائق حسب تقديره، لأن سيارته حسب زعمه تحظى بمعاملة خاصة على الحدود ولا تفتش خاصة في هذا الوقت اللاهب الذي لا تجرؤ فيه دوريات الحدود على التجوال.
وينجح السائق في تخطي هذه المنطقة ويدرك الثلاثة الذين حبسوا أنفاسهم في الخزان قبل أن يلفظوا أنفاسهم، لكن الجرة لا تسلم كل مرة، فبعد تخطيهم هذه النقطة يعلقون في منطقة تفتيش أخرى تسمى منطقة المطلاع الكويتية، وهناك يؤخره أصدقاؤه في الحدود وليكلف التأخير الذي يصل لواحد وعشرين دقيقة الفلسطينيين الثلاثة حياتهم ويقضوا جميعا فيرميهم السائق في صحراء الكويت بعد سلبهم محاولا إخلاء نفسه من المسؤولية بالقول: كان عليهم أن يدقوا جدار الخزان .
طابقت القصة التي حدثت في رواية قبل أكثر من نصف قرن، كثيرا من القصص التي راح ضحيتها عشرات اللاجئين وعشرات المشردين الذين احتموا بقارب أو بخزان شبيه بخزان كنفاني وأصبح التساؤل الشهير: لماذا لم يدقوا جدار الخزان؟ الصيغة المريحة التي يحاول كل طرف يحمل مسؤولية تجاه موت سري في خزان أن يطلقها ليخلي مسؤوليته ويريح ضميره.
فالقصص كثيرة ولم تكن أدبا أو سردا أو معمارا فنيا وإنما حوادث حقيقية استعارت من الأدب شكل الموت وطريقته وصاغت من حدث حقيقي موتا على شاكلة رجال تحت الشمس، واتخذت أيضا أسماء أخرى لرواياتها فمن رجال في عرض البحر إلى رجال في شاحنة حقيقية متجهة إلى النمسا إلى رجال تحت براميل متفجرة في سوريا إلى رجال في حقائب سفر أو صناديق مشحونة في طائرة أو سفينة إلى بلاد اللجوء الكثيرة، أشكال كثيرة وعناوين مختلفة يجمعها الموت حيث الموت لا يحمل إلا اسما وصيغة واحدة.
الخزان الذي لم يستطع أحد دق جدرانه حتى الآن تجاوز بسرعة جنونية كل عربات الحياة وانحرف عنها بقيادة سائق متهور واحد كان اسمه في “رجال تحت الشمس” أبو الخيزران ويملك رخصة لقيادة خزان فقط، أما الآن فقد واكب ساىق الموت الموت في صيغه العصرية وأخذ رخصا كثيرة لقيادة شاحنة وقطار وطائرة وقارب، ولم يعد مسؤولا عن وزر ذلك السؤال بقدر ما هو متحمس في نقل العدد الأكبر من الباحثين عن الحياة إلى حتفهم.
ربما لو كان غسان كنفاني على قيد الحياة حتى الآن لأعاد كتابة “رجال تحت الشمس” بصيغة أخرى ولجعل الفلسطينيين الثلاثة يدقون الخزان بقوة، ويخرجون بقوة الإصرار على تغيير مسار الأدب الذي أحال الفن إلى حقيقة في حين كانت وظيفة الأدب محاكاة الواقع بكثير من التخييل والخيال، ربما لو عايش كنفاني كل هذا الموت خلف جدران الشاحنات والخزانات والقوارب لجعل رجال الشمس يأخذون على عاتقهم كسر الخزان أو قتل سائق الموت أو حتى مواجهة التفتيش بشكل علني والموت بشكل علني، فحياتهم المهربة خارج الخزان لم تكن تساوي بمعاناتها وقسوتها موتهم المهرب داخله، حيث تفوقت وحشية الموت على حياة ممررة تحت الشمس ولاحقت الباحثين عن النجاة على الطرقات.
ميدل ايست أونلاين