ليس سهلاً مصادقة الندم

“هذا النص إهداء إلى روح صديقي سليمان صبح، بمناسبة هزيمة حزيران.”

لكل منا ثلاثة أمكنة: الوطن. المنفى. الندم.
_______________________

قلت لصديقي سليمان صبح، وهو يموت بالسرطان، في تونس:

– أنت أصبت يوم الهزيمه

وكنت أقصد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 حيث ذهبت المحافظة السورية الجميلة التي كنا نحبها، ونراها في جغرافيا مقدسة مؤلفة من ذاكرة التأسيس البشري: وادي اليرموك. بحيرة طبريا،الحمامات الكبريتيه في الحمه ، نهر الليطاني، نهر الأردن، البحر الميت… ومراثي أرميا أيضاً إذا شئت.

قال سليمان: إصابتي لها علاقة بفقدان الأشياء لقيمتها. وازدهار هذا الفقدان في ضمائرنا، بحيث سامحنا كل شيء.وبدأنا رحلة الحياة بوصفها تدريب على جماليات النسيان.

قلت له أنت تتفلسف وتعقّد خيط لعبتنا هذا المساء.

اسمع هذه الموسيقى.

وضعت شريط الموسيقى “نينوى” في المسجل . موسيقى نينوى افتراضية ألّفها ملحن ألماني من نوطة ألواح مكتشفة في مدينة نينوى العراقية. وتأثيرها متعدد المستويات، حسب المستمع والجو والأحوال الإيقاعية النفسية .

جرعنا كأسينا، وساد الاستماع البطيء الكئيب الذي يشبه الجلوس في صالون استقبال الموت. فأسكت المسجل، ومددت يدي إلى مكتبة سليمان وأمسكت كتابا هو من نشره في بيروت ـ دار ابن رشد: “تقرير إلى غريكو” لكازانتزاكيس. وقرأت له مقطعاً من إحدى الصفحات:

” … أتذكر الكابتن الكريتي، ذلك الذي يعبق بروث الماعز والفحول، كان قد عاد لتوه من الحرب حيث قاتل كالأسود، وصدف أن كنت في حظيرته، عصر أحد الأيام، حين تلقى ثناءً مطبوعاً على رقّ بحروف كبيرة حمراء وسوداء من ” الأخوّة الكريتية” في أثينا، كانت تهنئة على أعماله الباسلة تصفه بالبطل.

سأل الكابتن المراسل محتداً: “ما هذه الورقة؟ هل تطاول ماعزي على حقل أحدهم من جديد؟ هل علي أن ادفع تعويضاً عن الأضرار؟

وفتح المراسل الثناء بفرح وقرأه بصوت مرتفع:

ـ قله بلغة عادية لكي أفهم ماذا يعني؟

ـ يعني أنك بطل. إن وطنك يرسل لك هذه الثناء وتستطيع أن تحفظه لأولادك.

مد الكابتن يده الضخمة: “هاته” وأمسك الرّق ومزقه إرباً ثم ألقاه في النار تحت وعاء الحليب:

ـ “رح وقل لهم إنني لم أحارب لكي أتلقى قطعة من الورق، لقد قاتلت لكي أصنع تاريخاً”.

حزن المراسل لرؤية الرق الممزق في النار، ونهض الكابتن وملأ وعاءً صغيراً بالحليب، وقسم نصف قرص من الجبن، وجلب رغيفين من الشعير ثم التفت إليه وقال:

“تعال يا أخي لا تغضب، كل واشرب وليأخذ الشيطان الثناءات. قل لهم، أتسمع؟ قل لهم لا أريد أي جزاء، لقد حاربت لأنني كنت أريد ذلك…”

……………………………………………………..

صمت طويل…بعد أن أغلقت الكتاب ووضعته في رف المكتبة.

صمتٌ أصفرٌ طويل… فيما “نينوى” على مسافة رنين وَتَري تعلو وتهبط كصدر بثديين قويين.

لم يقل سليمان أي شيء، ولم يبد عليه أنه أسوأ حالاً، بل كان مورداً أكثر وهشاً كوردة آس حارة على شرفة بحرية وفي المساء.

في الكأس الثالث، كنت أنا من أصيب هذه المرة…

بدأ حزني عليه يمسك برقبتي، وبدأت أحس بمسؤوليتي “درهم الجنون باستدعاء قنطار من العقل”…وبينما أتردد في متابعة، أوركسترا الموت المقرر طلب إلي ألا أتردد… هكذا سنكون معاً في اللحظات الأخيرة في تونس عشية موته، كما كنا معاً في اللحظات الأخيرة في دمشق، عشية فراره.

تسكعنا في دمشق حتى مطلع الفجر، فهو أراد أن يودع المدينة التي أحبها. وعندما وصلنا إلى الشعلان فاحت رائحة الخبز الصباحي فاشترينا رغيفين وأردنا شراء بطيخة، لكن البائع لم يستيقظ، فأخذنا واحدة وتركنا على بسطته ما يمكن أن يكون ثمنها .

ـ هل تتذكر بائع البطيخ؟

لم يسمعني. كان شارداً مبتعداً. وطلب إلي أن أقرأ له أجمل أبيات الشعر التي أحبها.

فكرت بالمتنبي، ببشار، بأبي نواس…ولكنني فجأة تذكرت ما ينبغي أن يكون شبيهاً باللحظة التي نحن فيها فأنشدته:

غَسَل اليدين من الدنيا وبهجتها وقام صلى صلاة الخالد الفاني
حطّ العيون على الأشجار وانسربت من صدره روحه واحمرّ خدان
يا وقت…يا وقت لا تعصف بأغنيتي يا وقت لا وقت كي أصطاد ألحاني

فجأة نهض من سريره…وجحظت عيناه. ثم…تبسم، عندما رآني خائفاً. وفجأة فتح الباب ودخلت زوجته على ذروة المشهد الصريح، وصرخت:

ماذا تفعلان أيها المجنونان؟

وأمسكت بزجاجة الويسكي ورمتها في سلة زبالة المطبخ...فيما غرقنا نحن الاثنين فجأة بالضحك، وهي مدت يدها إلى نينوى وقضت على أطلالها الباقيات. طبعاً بعد أسبوع مات سليمان، ولم أكن أدري أنه أوصى بدفنه في مقبرة الشهداء الخاصة بالفلسطينيين، فتأكدت عندئذٍ أن تلك الوداعات الرنانة في آخر يوم في دمشق لم تكن سوى الحدس الخفي الموجود لدى كل منا بنكهة مصيره في لحظة بالغة القدم في الروح البشرية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى