يقال إن الرواية البوليسية هي الرواية التي تسعى إلى إجابة قارئها عمَّن فعل الحدث الجرمي؟ مثل القتل أو السرقة أو الانتحار والاغتصاب، وغيرها من أفعالٍ جرميةٍ، وكشف أسبابها، حيث تتسارع أحداث الرواية مع تدفّق الكشوفات المتتالية للتحقيق، الذي يتبناه ضابط بوليس، أي أن الرواية البوليسية تقوم على شقّين: الجريمة وملابساتها، والتحقيق وتفاصيله.
وما زالت الصحافة الثقافية العربية تتناول موضوعة عدم وجود أدب بوليسي عربي، أحدث هذه الكتابات مقالة الشاعر والناقد اللبناني عبده وازن الذي أشار في مقالته المنشورة، مؤخراً، إلى عدم وجود رواية بوليسية عربية، ضمن خريطة الأدب البوليسي العالمي، مرجعية كلامه هذا، تعود إلى صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية التي نشرت مؤخرا عددا خاصا عن الأدب البوليسي، وكان عنوانه الطريف “جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية”، حيث شمل العدد الأدب البوليسي في معظم القارات والبلدان؛ الولايات المتحدة الأميركية (شرق وغرب) وكندا وأميركا اللاتينية وآسيا والشرق الأدنى وأفريقيا، وبلدان أوروبا كافة الغربية والشرقية والجنوبية، وكان الاستثناء الوحيد كلّ دول العالم العربي قاطبةً. ومن التبريرات المُتداولة عن أسباب هذه الظاهرة، إن العالم الغربي تقدّم على الشرق بحدوث الثورة الصناعية فيه قبل قرنين من الزمان، وإنّ المجتمع الآلي الحديث جعل الإنسان الغربي يعيش الاغتراب عن ماضيه وحاضره.
تقاليد غربية بوليسية
تمكّن الغرب من ترسيخ النوع البوليسي في أدبهم خلال 150 عاماً، أي منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر وإلى يومنا هذا، ويُذكر بأنه بالرغم من هذه الحقبة الزمنية الطويلة، لم يتمّ البت بمعايير ومواصفاتٍ عالميةٍ للأدب البوليسي، وأيضاً هناك من النقاد، من ينزعون صفة الأدبية عن النوع البوليسي، من منطلق أنها انعكاس مقلوب للرواية الواقعية، بداية الحدث في الرواية البوليسية وقوع الجريمة، ونهايتها تتمّ بمعرفة المسبّب للجريمة.
اختطّ الأدب الغربي تقاليد بوليسيةً عريقة، لم يتأسّس نظيرها لدى العرب، مثلاً شخصية شرلوك هولمز، تلك الشخصية البوليسية الخياليّة التي ابتكرها الكاتب الإسكتلندي آرثر كونان دويل، ليساعد رجال الشرطة والمحققين عندما لا يجدون حلولًا للجرائم التي تواجههم، هولمز أفاد من التفكير المنطقي، وامتاز بقدرته على التنكر والتمويه، واستثمار معلوماته الطبية، بوصف أنّ مبتكرها كونان دويل طبيبٌ أيضاً، في حلّ ألغاز الجرائم. وبذا عُدَّ هولمز أشهر شخصيةٍ بوليسيةٍ في العالم على الإطلاق، استثمرها دويل في تأليف أربع روايات، وستة وخمسين قصة قصيرة، جميعها تنتمي إلى الأدب البوليسي.
وهناك أيضاً المحقق البوليسي الشهير هيركيول بوارو، تلك الشخصية التي ابتكرتها مؤلفة الكتب البوليسية أغاثا كريستي. واشتُهر عنه بأنّهُ يُحبّ الغموض والدراما، ولا يميل إلى مشاطرة المعلومات أو كشف الشرير إلا في آخر لحظةٍ ممكنة، وهذا ما جعل كبير المفتشين جاب وآرثر هستنغز، الذي يترافق ظهوره مع هيركيول في جميع بوليسيات كريستي، يتّهمه بتعمّد إخفاء المعلومات عن الآخرين ليبدو أذكى مما هو عليه حقيقة. كريستي جعلت محققها الشهير بوارو يبدو بمواصفات من يمتلك قدراً كبيراً من الذكاء، وهو جذّابٌ جداً بما يجعل الكثيرين يبوحون له بالمعلومات الشخصية، في الوقت الذي لا يبوحون بها إلى آخرين، مما جعل كريستي تتوّجه بطل أربع وثلاثين رواية وأكثر من خمسين قصة قصيرة من تأليفها، فبات محبوباً من قبل الملايين من المعجبين، من قرّاء روايات كريستي ومشاهدي أفلامها حول العالم، وبنشر موته في قصة “الستارة” عام 1975 عُدّ الشخصية الخيالية البوليسية الوحيدة في التاريخ التي نشرت النيويورك تايمز تأبيناً له على صدر صفحاتها.
وإذا كانت هاتان الشخصيتان برزتا في قمّة الأدب البوليسي العالمي خلال القرن العشرين، تضاف إليهما شخصية المفتش غاليمار المشتهر في قصص الجريمة الفرنسية، صحبة اللص المعروف آرسين لوبين، فإن كتّاب الرواية البوليسية الغربية في العقود الأخيرة حققوا شهرةً لا نظير لها، مثل الأميركي ستيفن كنغ الذي فاقت مبيعات كتبه جميع مبيعات أنواع الكتب الأدبية الأخرى، وعدد قرائه، لا يظفر أي روائي آخر بعددٍ قليلٍ منهم.
ويقول الروائي السوداني تاج أمير السر إن المُخيّلة الثرّة للكاتب البوليسي الغربي مردّها أنّه “نشأ في مجتمعٍ مكتنزٍ بالأدوات الفاعلة، أو التي تنشّط تلك المخيّلة، هو يرى الجرائم المعقّدة التي تُرتكب، يشاهد المتحرين وهم ينشطون من حوله، وربّما يتغلغل في علب الليل وعوالم الجريمة المتعددة، الموجودة بكثرة، من أجل أن ينشط خياله ويكتب”.
افتقار عربي
قد يعزى الافتقار العربي للأدب البوليسي إلى المحافظة على الجذور التي ما زالت نزعة سائدة في المجتمعات العربية الحديثة، بالرغم من التحولات الحاصلة في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، التي ربما لا تعين في ترسيخ نزعةٍ بوليسيةٍ في الرواية العربية، فالفرق يبقى شاسعاً بين الغرب والعرب.
ويمكن القول بأنّ رغبة الكتّاب العرب في كتابة الأدب البوليسي تصطدم بالافتقار إلى المحقق البوليسي، على غرار ما أشرنا إليه عالمياً، وتحليل ذلك، ربّما يعود إلى أن المحقّق الجنائي العربي، وفي غالبية بلدان العرب، ليس لديه الصبر والوقت الطويلين في إعمال عقله، وقيادة مسارات التحقيق بهدوءٍ وروية، حيث بوساطة تلك المسارات العميقة يمكن أن تُولد قصص تحقيقٍ شيقة، ربما توفّر السبيل لكتّاب راغبين في خوض غمار السرد البوليسي، أن ينسجوا روايات وقصصاً بوليسية، وبالتراكم الكمي والتميز النوعي، وعبر سنين طوال، ربّما ينبثق لدينا أدبٌ بوليسي. القصد من ذلك أنّ المحقق الجنائي العربي عامة، ينال ما يريده من اعترافاتٍ جرمية، بأقلّ الوقت، وأقصر الطرق، بوساطة اتّباع أساليب التعذيب والتهديد، ذلك ما يقوله الروائي السوري فواز حداد “السببُ في اختفاء الأدب البوليسي في بلادنا أنَّ الجرائم مهما تبدّلت وتنوّعت، فالحل المطروح واحد، ومعرفة المجرم مُيسّرة من دون تعقيدات، فما المثير فيها؟ بينما المحقّق الجنائي في روايات الغرب يجهد في التفكير، الكثير من التفكير، فمثلًا هولمز يصرف الكثير من الأفيون، ويستعين بوارو بالخلايا الرمادية، للتغلّب على ذكاء المجرم”.
وإذا أردنا أن نبحث عن سقفٍ أكبر للافتقار العربي للأدب البوليسي، فإنّ عديد الكتّاب والدارسين يرون أنه بسبب غياب الديمقراطية، في غالبية بلدان العرب، ومن ثمّ يترتّب على ذلك غياب العدالة والقانون، وقد قالها الروائي فواز حداد “أمرٌ واحد: القانون. عندئذ تدخل مملكة الرواية” لكن الروائي تاج أمير السر يرى ألاّ غرابة في افتقار الأدب العربي إلى الرواية البوليسية، لماذا؟ “باعتبار أن اختلاف المجتمعات في بنائها وحركة شعوبها وعاداتهم وتراثهم بالضرورة يؤثر على الأدب كثيراً، ولطالما وُصف الأدب بأنّه مرآةٌ للشعوب، يعكسها بألوانها التي عليها”. ربّما العلةُ واحدة، لكنّ أساليب صياغتها تعدّدت، فنحن في مجتمعاتٍ عربية، بالرغم من إشهارات منصات التواصل؛ نسرُّ أكثر مما نعلن، ونُكبت أكثر ممّا نفجّر.
ميدل إيست أونلاين