ليس للسقوط قاع … !
يتناول الإيطاليون طرفة نادرة الغرابة ,لاذعة التهكّم ,شديدة الاختزال ويتّهمهم (أبطال) الطرفة هذه بالعنصرية ومعاداة الساميّة، مفاد هذه القصّة النكتة أنّ يهوديّا قصد مبنى الفاتيكان وطلب لقاء الحبر الأعظم في أمر سريّ ,مستعجل وخطير يتعلّق بسمعة المسيحيين في الشرق والغرب على حد زعمه، وحين كان له ما أراد قال لسيّد الفاتيكان مقدّما نفسه : (أنا وريث أقدم مطعم في أرض كنعان القديمة) ثمّ مدّ له بصحيفة مهترئة ومعتّقة ,كتب عليها أرقام وحسابات مبهمة وهو يقول :(تفضّل، هذه فاتورة العشاء السرّي والأخير لنبيكم مع تلاميذه وحوارييه يا سيدي، هم لم يدفعوا الحساب لنا كما تعلم، لذلك جئت أطلب منكم الآن تسديد الفاتورة التي تضاعفت أرقامها وفوائدها بحكم الزمن وأنت سيد العارافين …ودمتم في خدمة ديانتكم ورعاياكم أيها الحبر الأعظم، ثمّ أنّي لا أشكّ في أمانتكم ونزاهتكم ).
ليست هذه المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي يطالب فيها ضعاف الذمّة والإيمان والنفوس ــ ومن مختلف العقائد ـ بتسديد الفواتير عبر التاريخ من خلال العزف على أوتار العقيدة والأخلاق والوطنية والمروءة …إلى ما شاء لك من مقامات.
ولأنّ ليس للسقوط قاع ولا للابتزاز حدود ولا للوقاحة ضوابط، فإنّ جماعة من السلفيين والجهاديين الذين سجنوا في عهد النظام التونسي السابق قد أطلّوا علينا بمطلب غريب المنطق، حاسم اللهجة .. وهو أن يسدّد التونسيون جميعهم فاتورة (إقامة هؤلاء) في سجون النظام البائد وزنازينه على حساب حليب أطفالهم وخبز عائلاتهم …! أي من موازنة الدولة العرجاء…وخرجوا يعتصمون ويحتجّون ويتظاهرون ويهتفون بضرورة (ردّ الاعتبار ) المادي قبل المعنوي وتعويض (نضالهم) بمبالغ تبدو خيالية في رأس المواطن الفقير، أي أن يتقاضى كل واحد منهم ما يعادل المأتي ألف دولار أمريكي عدّا ونقدا – وأكثر – على كل عام قضّاه في السجن دون السؤال حتى عن التهمة أو نص الحكم الصادر ضدّه !
هكذا يصبح للنضال المزعوم و(الوطنية المأجورة ) ثمن نقديّ – وبالدولار الأمريكي – وتمسي المبادئ المزوّرة أسهم رابحة في (بورصة الثورة)، هكذا يطالب المحرومون من أبناء شعبي بفاتورة جائرة – ودون تقسيط مريح – فوق آلامهم ..وفي غفلة من ذقونهم التي يضحك عليها من جديد.
ما أسرّني وأثلج صدري هو أنّ الشعب لم يكن مغفّلاً وقابل هذا الابتزاز السياسي الرخيص بمزيد من الغضب والرفض لهذا الجسم الغريب الذي يحاول التسلّل إلى مسامات جلده وخرج معاتبا ومقارعا، بل محتجّا ورافضا ولاعنا.
الأجمل من ذلك كلّه ومن هذه المسخرة التي رفضها التونسيون جميعا هو أنّ قوى وطنيّة من مناضلي اليسار العربي والماركسي والليبراليين والمستقلّين الذين ذاقوا مرارة العهد السابق في السجون قد خرجوا يعلنون براءتهم ورفضهم ونأيهم عن هذه المطالب التي تشبه ما تقدّم بها المتصهين المتذاكي للفاتيكان في القصة التي أوردناها بداية هذه السطور.
اللهم اكفنا شرّ المطالب بحق يدعيه وأكثر من عبادك المكابرين المتسامحين والمتفوقين على جراحهم .