ليوناردو بادورا: «وداعاً همنغوي» الذي يخصّني
مشهد وحيد وعابر لأرنست همنغوي مغادراً شاطئ الصيادين في إحدى المدن الكوبية، يسترجعه الطفل ماريو كونده بحنين، فهو لم ينس تلويحة صاحب «الوليمة المتنقّلة» من نافذة سيارته، عندما كان الطفل يتنزه بصحبة جدّه. صورة «بابا همنغوي» تلك ستجعل الملازم يهجر مهنته في سلك الشرطة لاحقاً كي يصبح كاتباً. هذا الشغف بهمنغوي يدفع زميله السابق في الشرطة إلى استدعائه للتحقيق في جريمة وقعت قبل أربعين عاماً في مزرعة الكاتب. من جهته، يستدعي ليوناردو بادورا في روايته «وداعاً همنغوي» (2005 ــ صدرت أخيراً ترجمتها العربية عن «دار المدى» ـ ترجمة بسّام البزّاز) ماريو كونده، بطل رواياته البوليسية السابقة، ويزجّه في مشروعه الجديد الذي يتعلّق باختراع حكاية متخيّلة عن كاتبٍ ما.
هكذا وقع اختياره على همنغوي الذي عاش فترة طويلة من حياته في كوبا، ليقلّب أرشيفه الضخم بحثاً عن وثيقة ما تثبت علاقته بالجريمة التي وقعت أحداثها في مزرعته ليلة الثاني من تشرين الأول (أكتوبر) 1958. يلجأ المحقق إلى فحص محتويات المتحف الشخصي لصاحب «وداعاً للسلاح»، فيشير أمين المتحف إلى سروال آفاغاردنر، الذي كان همنغوي يلف مسدسه به. ثم يعيد قراءة رواياته وكتب السيرة المكتوبة عنه. يستجوب الأشخاص الأحياء الذين عملوا في المزرعة، من دون أن يجد دليلاً دامغاً يدين الروائي. لكن أثناء فترة التحقيق الاستقصائي المحمومة، نكتشف أسراراً كثيرة عن حياة همنغوي وعلاقاته المضطربة مع كتّاب عصره أمثال جون دوس باسوس، وفولكنر، وفيتزجيرالد، ومغامراته في أفريقيا، وعمله كمراسل حربي، وشغفه بمباريات الدّيكة ومصارعة الثيران، ومشاركته في الحرب الأهلية الإسبانية، ورفضه الذهاب إلى الأكاديمية السويدية لإلقاء خطبة في مناسبة فوزه بجائزة نوبل للأدب كنوع من التمرّد والاستعلاء والاستعراض. ثم سيوزّع أموال الجائزة على من يحتاج إلى المساعدة من أصدقائه.
يلجأ الروائي الكوبي إلى التعامل مع همنغوي بوصفه شخصية روائية نموذجية، فيما يقتفي ماريو كونده أثر الأول في مبارزة علنية، إذ يتخلى عن إعجابه بالروائي تدريجاً، أمام مواقف العار والخيانة التي اكتشفها في سلوكياته، وصولاً إلى حادثة انتحاره بطلقة من بندقيته. وعلى المقلب الآخر، يسعى كونده من موقعه كبائع كتب مستعملة وروائي مؤجل، إلى استعمال تقنية همنغوي في السرد، وفقاً لنظرية جبل الجليد التي كان همنغوي يؤمن بها، مؤكداً أهمية الحذف، وتقليم اللغة من الأغصان التي تعيق الرؤية، وضرورة الحركة، بالاستفادة القصوى من خبرته في العمل الصحافي: «إنّك تستطيع أن تحذف أيّ شيء إذا كنت تعرف ماذا تحذف». فالقارئ لا يرى من جبل الجليد إلا جزءاً بسيطاً، وهو الجزء الذي يطفو فوق السطح. أما الجانب العميق من القصة، فنحن لا نراه لأن الكاتب حذفه وأخفاه عمداً، وعلى القارئ أن يكتفي بالإشارات والتلميحات التي اعتمدها الكاتب في طريقه إلى القصة الكاملة.
هكذا تتكشّف الألغاز تبعاً لتحقيقاته مع الأشخاص الذين كانوا قريبين من صاحب «لمن تقرع الأجراس». بعمليات الحفر في المزرعة، يجد رئيس الدورية شارة شرطي استخبارات أميركي كان يعمل في سفارة بلاده في هافانا. وبتحريات مكثّفة، يتبيّن أنّ مهمة هذا الضابط مراقبة همنغوي لشكوك تتعلق بميوله الشيوعية تنتهي بقتله على يد حرّاس المزرعة بعد مشاجرة بين بابا همنغوي والشرطي، ثم دفنه في ساحة مصارعة الديكة، وإخفاء البندقية التي استُعملت في عملية القتل. خلال انتقالات ماريو كونده بين المزرعة والمتحف وهافانا، يبدو كمن يؤثث مكاناً روائياً بما يليق بمثل هذه الشخصية، إذ تتكوّم الأوراق والوثائق والمقتنيات من جهة، والشغف والنفور والهجاء من جهةٍ ثانية، بقوة ذهاب وإياب المخيّلة: «إذا ثبت أن القاتل هو همنغوي، فسيغوص في الخراء، من رأسه إلى قدميه»، يقول ماريو كونده وهو يتطلع إلى أن يكون كاتباً حصيفاً في بناء شخصيته الروائية بصرف النظر عن الإشاعات التي تحيط بهذه الشخصية الجدلية، سواء لجهة السيرة المكتوبة عنها أو ما تسرّب إلى الروايات والقصص التي أنجزها همنغوي خلال حياته كحصيلة لتجربته في العيش: «لقد سطّر همنغوي وقائع احتضاره ودنوّ ساعته. سطّرها بالأرقام، حين تكون الأرقام أبلغ من الوصف». يسأل الشرطي صديقه ماريو كونده: «هل تعرف إن كان همنغوي وقع ذات مرة في غرام كوبية؟». يجيبه: «لا أعلم في الواقع»، فيستغرب الأول قائلاً «فكيف إذاً، كان يحاول أن يكتب عن كوبا؟».
كأن الرواية بمجملها درس في السرد من وجهة نظر ليوناردو بادورا على خلفية فهمه لأعمال همنغوي واستراتيجيته في الكتابة: كيف نبني نصّاً روائياً؟ وما هي المواد الخام التي يحتاجها الروائي لتأثيث نصّه وإقناع المتلقي بها، بصرف النظر عمّا هو حقيقي وما هو متخيّل؟. «في هذه الرواية، امتزجت شخصيات الواقع بشخوص الخيال، في أرض لا حكم فيها إلا لقواعد الرواية، وعليه، فهمنغوي هذه الرواية همنغوي مصنّع، مصنوع، لأنّ القصة التي سنراه فيها من نسج خيالي» يقول. هذا الهوس بأهمية أدب صاحب «الشيخ والبحر»، سيتكرّر لدى غابرييل غارسيا ماركيز في شهادته «همنغوي الذي يخصني» متذكراً عبارة ذهبية قالها همنغوي: «من الممكن عند المساء التوقف عن العمل حين يكون لدى الكاتب تصوّر مسبق عن عمله صباح اليوم التالي». ويضيف: «لا أعتقد بأن كاتباً ما قد قدّم نصيحة بهذه القيمة في ما يتعلق بمشروع الكتابة، حيث أجد أن ما قاله يعتبر وسيلة نادرة لمواجهة تحدّي الصفحة البيضاء صباح كلّ يوم!».