مآلات محتملة: النظرة الإسرائيلية لمخاطر “الجولان” في ظل الأزمة السورية (سعيد عكاشة)

 

سعيد عكاشة *


بعد هدوء اقترب من الأربعين عاما على خطوط المواجهة الإسرائيلية- السورية، تبدو هضبة الجولان المحتلة مرشحة للدخول في تفاعلات ومآلات الحرب المحتدمة بين نظام بشار الأسد ومعارضيه، إذ إن أيا من السيناريوهات المحتملة لنهاية تلك الحرب سيؤثر ولا شك فى مستقبل تلك المنطقة التي يراها الإسرائيليون مصدر تهديد محتملا لأمنهم، فكيف تنظر تل أبيب للمخاطر المحتملة للجولان المحتل في ظل الأزمة السورية الجارية؟.

أسباب الهدوء ما قبل الأزمة السورية

ظلت خطوط وقف إطلاق النار القائمة بين إسرائيل وسوريا، منذ توقيع اتفاق فض الاشتباك بين قواتهما عام ١٩٧٤، هادئة ، ولم تشهد أي أزمات هددت هذا الوضع ، وكان ذلك لعدة أسباب، من أبرزها:

أولا: خلل عسكري، حيث إن عدم توافر الإمكانيات العسكرية لسوريا لشن هجوم ناجح يستهدف تحرير الهضبة، التي احتلتها إسرائيل عام ١٩٦٧، جعل ميزان القوي الشامل والجزئي مختلا بشدة لصالح تل أبيب، ومن ثم رأت سوريا – خاصة مع خروج مصر من جبهة الصراع مع إسرائيل رسميا منذ عام ١٩٧٩ – أن تحرير الجولان بالقوة العسكرية أمر يبدو مستحيلا، كما أن تسخين الهضبة عبر حرب استنزاف، مثل تلك التي نفذتها مصر ما بين عامي ١٩٦٧ و ١٩٧٠، يمكن أن يهدد بقاء النظام الحاكم في سوريا ، في حال إذا ما ردت إسرائيل على هذه الحرب بتهديد العاصمة دمشق، والتي لا تبعد سوى ٧٠ كيلومترا من الهضبة.
وكانت إسرائيل قد مارست هذا التهديد عمليا في حرب أكتوبر ١٩٧٣ لولا تدخل الجيش العراقي في القتال إلى جانب سوريا، علاوة على الضغوط الأمريكية- السوفيتية في ذلك الوقت لوقف زحف القوات الإسرائيلية صوب العاصمة السورية .

ثانيا: فتح جبهة عسكرية عبر الوكلاء، حيث برهنت النجاحات التي حققتها سوريا في تحويل لبنان إلى جبهة مفتوحة مع إسرائيل، عبر وكلاء مثل المنظمات الفلسطينية في السبعينيات من القرن الماضي، ثم عبر حزب الله منذ عام ١٩٨٣، وحتى اليوم، على أن الضغط على إسرائيل للدخول في مفاوضات حول الجولان بطريق غير مباشر أفضل لسوريا من حرب تحرير يستحيل كسبها بالجهود السورية الذاتية ، وهو ما تكلل بالفعل فيما عرف في منتصف التسعينيات باسم " وديعة رابين"، والتي قيل حينها إن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق رابين كان قد تعهد للرئيس الأمريكي الأسبق بل كلينتون بأنه على استعداد للانسحاب الكامل من الجولان، مقابل التطبيع الكامل مع إسرائيل، والاتفاق على ترتيبات أمنية في الجولان. كما أسفرت هذه السياسة عن تقوية المكانة الإقليمية لسوريا، بعد أن أصبحت طرفا مركزيا في تحالف إقليمي واسع يضم إيران، وسوريا، وحزب الله، وحركة حماس، وحركة الجهاد الفلسطيني في قطاع غزة .

ثالثا: رغم أن خط التسوية السلمية الذي انتهجته مصر لحل الصراع مع إسرائيل، والذي توج بتوقيع اتفاق السلام بين البلدين عام ١٩٧٩، قد أدى إلى استرداد مصر لسيناء ، فإن وعود السلام الاقتصادية لم تتحقق، ومن ثم بدت القوى المعارضة لاتجاه التسوية السلمية في مصر والعالم العربي في موقف أكثر قوة ضد التسوية، معتبرة إياها أسوأ من بقاء وضع حالة اللاحرب واللاسلم الذي التزمت به سوريا على خط المواجهة مع إسرائيل.
وبدلا من توجيه الانتقاد لسوريا بسبب عجزها عن تحرير الجولان، وجهت القوى الراديكالية القومية واليسارية والإسلامية المديح للقيادة السورية التي ترفض الالتحاق بالمشروع الأمريكي – الإسرائيلي لتطويع المنطقة، وتقف في مواجهته عبر دعمها لخط المقاومة الذي يمثله حزب الله والمنظمات الفلسطينية المختلفة.
باختصار، ظل النظام السوري محافظا على الهدوء في الجولان، لأن ذلك كان في مصلحته.
وفي المقابل، كانت إسرائيل تجد في الموقف السوري ما يفيدها أيضا من الناحية الأمنية، وظلت ترفض بإصرار الربط بين استمرار احتلالها للجولان، والتهديدات الأمنية التي يمثلها حزب الله وحركة حماس المدعومان من سوريا. فالخبراء الأمنيون في إسرائيل (حسبما يذكر دنيس روس في كتابه : السلام المفقود) يرون أن توقيع اتفاق سلام مع سوريا لن يقلص التهديدات الأمنية القادمة من لبنان، أو من مناطق الحدود المشتركة مع إسرائيل والدول العربية، خاصة مع زيادة قوة التيارات الإسلامية في سوريا ومصر والأردن ، وبالتالي ستكون إسرائيل قد انسحبت من أراض ضرورية لأمنها، مقابل اتفاقات تسوية غير مضمونة البقاء، بحسب وجهة نظر هؤلاء الخبراء.

الجولان كمصدر تهديد بعد الأزمة السورية

مع اندلاع المواجهات بين نظام بشار الأسد ومعارضيه، والتي تحولت إلى حرب أهلية لا تزال مشتعلة حتى الآن، تنبهت إسرائيل إلى أن الاحتمالات الثلاثة الممكنة كنهاية للازمة السورية ستؤثر حتما فى جبهة المواجهة المحتملة في الجولان. ويقصد بتلك الاحتمالات الثلاثة ما يلي:
الاحتمال الأول : بقاء نظام الأسد، وتمكنه من استعادة سيطرته على البلاد في فترة وجيزة .
الاحتمال الثاني: سقوط نظام الأسد، وتمكن الإخوان المسلمين من تشكيل نظام بديل، باعتبارهم الفصيل الأكبر، والأكثر تنظيما في المعارضة، بجناحيها العسكري والسياسي.
الاحتمال الثالث: تفكك سوريا، وظهور دويلات كردية وعلوية ومناطق فوضى متنازع عليها بين التيارات الإسلامية السنية.
في كل السيناريوهات الثلاثة، وبغض النظر عن أيها أقرب للتحقق في المدى المنظور، فإن إسرائيل تسعى لجعل الجولان المحتل بمنأى عن ثلاثة مخاطر كبرى:

أولا: تدفق كبير للاجئين السوريين، خاصة من الطوائف الدرزية والمسيحية، في حالة سقوط نظام الأسد، وظهور نظام إسلامي على أنقاضه، أو هربا من الحرب الأهلية. وكانت إسرائيل قد أعلنت بوضوح أنها لن تقبل بوصول لاجئين لأراضيها، كما أقامت منذ بداية الأزمة السورية جدارا عازلا على حدود هضبة الجولان المحتل في يونيو ٢٠١١، بذريعة منع الفلسطينيين من اختراق الحدود، والوصول إلى بلدة مجدل شمس، حيث كانت بعض المنظمات الفلسطينية قد دعت اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في سوريا، ولبنان، ومصر، والأردن إلى الاحتشاد يوم ١٥ مايو ( ذكري نكبة ٤٨ )، والسير باتجاه فلسطين (إسرائيل) لتنفيذ حق العودة.
غير أنه يعتقد أن الجدار لم تتم إقامته من أجل منع تكرار ما حدث عام ٢٠١١ في ذكرى النكبة، بل تحسبا لتطورات الأزمة السورية بالدرجة الأولي، خاصة أن الدروز الإسرائيليين، بوصفهم الفئة العربية الوحيدة التي تخدم في جيش الدفاع الإسرائيلي، يمكنهم ممارسة ضغوط كبيرة من أجل السماح لأهلهم في سوريا بالحصول على ملاذ آمن في الجولان، في حالة تعرضهم لمخاطر كبيرة من جراء الحرب الأهلية في سوريا، وهو وضع قد يتسبب إما في تحطيم التوازن الديموغرافي القائم في هضبة الجولان التي يسكنها في الوقت الراهن أعداد شبه متساوية من الدروز والمستوطنين اليهود، أو في إغضاب الطائفة الدرزية الإسرائيلية، في حالة عدم الاستجابة لمطالبها بتوفير مأوى لإخوانهم الهاربين من أتون الحرب الأهلية في سوريا.

ثانيا: منع حزب الله وإيران من إيجاد موطئ قدم لقواتهما قرب هضبة الجولان، حيث تتخوف إسرائيل (وفقا لرأي تسفي برئيل في صحيفة هآرتس ١٩ فبراير الماضي ) من أن إيران وحزب الله يرسمان منذ الآن خريطة سيطرة جديدة، داخل سوريا، عبر ما أكثر من 50 ألف مقاتل ومستشار في سوريا. ويرى برئيل أن أهداف إيران وحزب الله تكمن في أن يكون لهما وجود عسكري مؤثر يهدد أي نظام جديد في سوريا، حال سقوط الأسد.
ومثلما يسيطر حزب الله في لبنان، بفضل قوته العسكرية، فسيكون بوسع ميليشيا مسلحة ومدربة جيدا في سوريا أن تفرض إرادتها على كل نظام سوري. كما أن النظام الإيراني لا يتردد أيضا في استخدام المنظمات غير الشيعية ، ما دامت مستعدة للتعاون معه. فطهران – بحسب الرؤية الإسرائيلية- يمكن أن تشكل مصدرا للسلاح والتمويل للجماعات المسلحة التي تعارض أي نظام جديد في سوريا، حال سقوط الأسد.وتتخوف إسرائيل أيضا، في حال تقسيم سوريا، وظهور مناطق فوضي غير مسيطر عليها، من أن تستغل إيران ومعها حزب الله هذه المناطق إما في تأمين ممرات لتهريب السلاح إلى لبنان، أو شن عمليات عسكرية ضد إسرائيل من جهة الجولان .

ثالثا: منع التنظيمات الإسلامية القريبة من تنظيم القاعدة، مثل " جبهة النصرة "، من السيطرة على أماكن قريبة من هضبة الجولان، رغم أن وجود تنظيمات جهادية من هذا النوع يعد عامل توازن مهما مع الوجود العسكري لإيران وحزب الله داخل سوريا حاليا. فالتنظيمات الجهادية السنية بحكم الأيديولوجيا التي تعتنقها في حالة عداء مع الشيعة، وبالتالي تُعد إيران وحزب الله عدوهما الأول قبل إسرائيل. ولكن الجهاديين السنة يمكن أن ينقلبوا إلى خطر داهم على إسرائيل لاحقا، كما حدث إبان التجربة الأمريكية في دعم الجهاد ضد القوات السوفيتية في أفغانستان.
قصارى القول إن جبهة الجولان التي كانت هادئة، على مدى ما يقرب من أربعين عاما، أصبحت مصدرا محتملا لمخاطر مختلفة على الأمن الإسرائيلي. لأجل ذلك، زرعت إسرائيل ألغاما أرضية على امتداد الهضبة في العام الماضي، كما أقامت جدارا أمنيا لمنع تسلل اللاجئين أو المقاتلين المحتملين من الجهة السورية، بل إنها شنت غارات في عمق الأراضي السورية في شهر يناير 2013 لضرب ما سمته محاولات لنقل أسلحة كيميائية إلى حزب الله. كما تسربت تقارير عن نيتها في إقامة منطقة عازلة داخل الأراضي السورية بعمق ١٧ كيلو مترا، في حالة اشتداد القتال بين قوات الأسد والجماعات المعارضة له.
ورغم ذلك، لا يمكن القول إن هذه الإجراءات قد أنهت إمكانية تحول الجولان إلى خط على إسرائيل. فالأزمة السورية لا تزال مفتوحة على احتمالات عديدة، يمكن أن تجعل من الجولان جبهة متقدمة للصدام بين إسرائيل، وحزب الله، وإيران، وسوريا، تحت أى نظام جديد محتمل.

*باحث مشارك بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام

مجلة السياسة الدولية (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى