مؤتمر “جنيف – 2” وصراع التوازنات الدولية والإقليمية (عامر راشد)

 

عامر راشد

التعميم المضلل بعد مؤتمر "جنيف – 1" حول سوريا، الذي عقد في نهاية يونيو/حزيران 2012، تمثل في إشاعة أن العقدة الرئيسية تتجلى في بقاء الرئيس بشار الأسد أو رحيله، ويُسترجع التعميم ذاته في المواقف المختلفة إزاء مؤتمر "جنيف – 2"، في إغفال لحقيقة أن الصراع بات في جوهره وأبعاده صراع توازنات دولية وإقليمية على الثقب الأسود للأزمة السورية.
المبادرة السياسية الثانية لحل الأزمة السورية التي أطلقها الأسبوع الماضي الشيخ معاذ الخطيب، الرئيس السابق لــ"الائتلاف الوطني" السوري المعارض، على خطا مبادرته الأولى في شباط/فبراير الفائت، لقيت رفضاً مزدوجاً من الحكومة وأطياف واسعة من المعارضة السورية، ولن تكون لها حظوظ في تبنيها من قبل أطراف إقليمية أو دولية نافذة قبل انعقاد مؤتمر "جنيف – 2" الشهر المقبل، لأنها ولدت قبل أوانها بناء على التفاهم الروسي – الأميركي.
وقوبلت خطة الشيخ الخطيب باستخفاف، حيث وصفها البعض بـ"الطفولية" السياسية والبعض الآخر بـ"الحالمة" وغير قابلة للنقاش، ورفض "الائتلاف الوطني" المعارض في اجتماعه الأخير مناقشتها باعتبارها رأياً شخصياً لا يتفق مع مبادئ الائتلاف لحل الأزمة، بينما رأى فيها معاون وزير الإعلام السوري خلف المفتاح أنه "ليس لها معنى" لأنها تخرج عن مقررات مؤتمر "جنيف – 1" . وقلَّة فقط من الشخصيات المعارضة أشادت بها كمخرج واقعي يستحق أن يدرس ويولى الاهتمام، لاسيما في ظل أن البدائل الأخرى تراهن على ثنائية: الحسم العسكري وتغيير أو ثبات المواقف الإقليمية والدولية من الأزمة، وهي مراهنة مكلفة وخاطئة في آن واحد، وإن بدت من وجهتي النظر المختلفتين للسلطة والمعارضة ممكنة، بل ولازمة لدفع رياح التحضيرات لمؤتمر "جنيف – 2" يسعى كل طرف من طرفي الأزمة لتجيرها في صالحه.
وتضمر المواقف السلبية من المبادرة الثانية للشيخ الخطيب رفض الخروج من الأزمة بتسوية سياسية، عُقِد مؤتمر "جنيف – 1" من أجل بلورتها، ويفترض بمؤتمر "جنيف – 2" أن يستكملها بخطة عملية لتنفيذها عبر إزالة الخلافات على تفسير بيان "جنيف – 1" الصادر بتاريخ 30 حزيران/يونيو 2012، وتحديداً ما يتعلق بدور الرئيس الأسد في المرحلة الانتقالية ومصيره في المرحلة اللاحقة.
أما الذي أراده الشيخ الخطيب، كما عبر في أكثر من تصريح وتعليق له، فهو تجنب تسوية سياسية تفرض من الخارج، محكومة بمعادلة مصالح إقليمية ودولية، الأفضل للمعارضة أن تتلافاها بتقديم تنازلات متوازنة تلبي شرط الانتقال السلمي للسلطة، دون التنازل عن شرط رحيل الرئيس الأسد، الذي يستحضره الشيخ الخطيب في البند الأول من مبادرته الثانية.
ومع ذلك، فإن بعض أطراف المعارضة السورية لا تدرك، أو لا تريد أن تدرك لسبب أو آخر، أن الخيارات الإقليمية والدولية تجاه الأزمة تجاوزت رحيل الرئيس الأسد كشرط مسبق للتسوية والحوار بين السلطة والمعارضة، وكرِّس هذا في التفاهم الروسي- الأميركي على عقد مؤتمر "جنيف – 2"  استكمالاً لـ "جنيف – 1". ولفت إلى هذا وزير الخارجية الفرنسي الأسبق هوبير فيدرين في مقابلة مع صحيفة "الحياة" اللندنية، نشرت اليوم السبت، بتأكيده أنه "بمجرد إعادة روسيا إلى الحل وإطلاق فكرة المؤتمر الأميركي- الروسي، هناك ثمن دفع وهو عدم اشتراط رحيل الأسد مسبقاً. وهذا الأمر حصل فعلاً وليس تخميناً للمستقبل. ومن أجل ذلك يبتكرون صيغاً مفادها أن يتم التفاوض مع شخصيات من النظام غير متورطة بالدم. وفهم أوباما أن أي حل لن ينجح من دون روسيا ويجب العمل معها. هذا يعني أن رحيل الأسد مجرد تمنٍّ وأمل وليس شرطا مسبقاً". وتساءل فيدرين: "هل سيتيح ذلك اختراق التعطيل؟" وأجاب على تساؤله قائلاً: "أنا لا أدري. ولكن بما أن شيئاً آخر لا ينجح، يجب ألا ننتقد هذه المحاولة الأميركية ولننتظر لنرى نتائجها".
وفي الضفة الأخرى، لا تريد الحكومة السورية الاعتراف بأن المستوى الذي بلغته الأزمة أملى منذ زمن تجاوز بقاء النظام ببنيته الحالية، والخلاف بين الخيارات الإقليمية والدولية ليس على بقاء بنية النظام ومصير الرئيس الأسد، إنما على طبيعة وحجم التنازلات المطلوبة من النظام ومتى وكيف يتم إدراجها ضمن تسوية سياسية.
وعبّر عن ذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 20 كانون الأول/ ديسمبر 2012 خلال مؤتمره الصحفي السنوي، بالقول: "روسيا ليست قلقة على نظام بشار الأسد، بل نحن قلقون بسبب ما يجري هناك حالياً، نحن ندرك أن هذه العائلة توجد في السلطة منذ 40 سنة، ولا ريب أن التغييرات لا بد منها..". وأضاف: "إن موقفنا لا يتلخص في الحفاظ على بقاء الأسد في السلطة، بل في أنه يجب في البداية أن تتفق الأطراف في ما بينها حول كيفية العيش لاحقاً، وكيف يمكن ضمان أمن ومشاركة هذه الأطراف في إدارة الدولة، وبعد ذلك يمكن البدء وبموجب ما يتوصلون إليه من اتفاقات، وليس العكس:  في البداية، طرد وتصفية كل شيء، ثم محاولة الاتفاق في وقت لاحق. أعتقد أن الاتفاق على أساس الانتصارات العسكرية لا مجال له هنا ولا يمكن أن يكون فعالاً. وعموماً، فإن كل ذلك يتوقف على الشعب السوري..". وشدّد الرئيس بوتين على أن القيادة الروسية مهتمة طبعاً بموقع روسيا الاتحادية في المنطقة.
وفي نص الاقتباس ما يكفي من مباشرة للتأكيد على أن روسيا سوف تتعاطى ببراغماتية عالية في تفاهماتها مع الولايات المتحدة والدول الغربية والقوى الإقليمية الفاعلة لتسوية الأزمة السورية سياسياً، وفق الرؤية التي كشف عنها الرئيس بوتين، وبما يحافظ على المصالح الروسية في مواجهة النفوذ الأميركي والأوروبي الغربي، ونفوذ القوى الإقليمية الكبرى (تركيا وإيران وإسرائيل).
وإلى أن تدرك مكونات المعارضة الرافضة لمبادرة الخطيب الثانية أن التفاهمات الدولية والإقليمية تجاوزت مطلب رحيل الرئيس الأسد كشرط مسبق لتسوية سياسية مقبولة من طرفي الصراع ومجازة إقليمياً ودولياً، وإلى أن تعترف الحكومة السورية بأن خيار التغيير لم يعد قابلاً للطي، فإن طرفي الأزمة يدفعان بكل قوتهما لتغيير ما يمكن جزئياً في الميزان العسكري على الأرض، لتحسين الشروط التفاوضية في مؤتمر "جنيف – 2" وفي العملية السياسية التي ستتمخض عنه لاحقاً، وصولاً إلى تسوية سياسية ستفرضها في النهاية الخيارات الدولية والإقليمية، إذا فشلت الحكومة والمعارضة السورية في الوصول إليها قبل فوات الأوان، لكن بشرط بقاء التفاهم الروسي- الأميركي قائماً وبزخم.

وكالة أنباء موسكو

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى