مؤشرات تراجع الوضع الاستراتيجي الإسرائيلي
أشرت في مقالي الأخير بعنوان: “دلالات قرار نتنياهو وقف اقتحام الأقصى بعد معركة رمضان”، بأنّ المقاومة حقّقت صورة نصر بعدما قرّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وقف اقتحام اليهود المستوطنين لباحات المسجد الأقصى في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، وقيام قوات العدو بشن عدوان “محدود” على مختلف الجبهات (الفلسطينية واللبنانية والسورية)، رداً على إطلاق نحو 34 صاروخاً، انطلاقاً من الجبهة اللبنانية تجاه مستوطنات العدو، على نحو أظهر تأكّلاً في منظومة الردع الإسرائيلية.
تراجعت صورة الردع الإسرائيلي بشكل تصاعدي منذ حرب تموز/يوليو2006، حتى معركة سيف القدس في أيار/مايو 2021، حتى وصلت إلى التأكّل العميق، منذ تولّي بيبي نتنياهو الحكم، على نحو دفع حكومته لتجاهل الرد القوي على عملية مجدو التي وصفتها مؤسسة العدو العسكرية بالعملية الأمنية المعقّدة والخطيرة.
نقدّر بأنّ تأكّل منظومة الردع الإسرائيلية هو أحد انعكاسات تراجع الوضع الاستراتيجي للكيان، والذي يعدّ التراجع الأخطر منذ حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وفي المقابل تحسّن الوضع الاستراتيجي لمحور المقاومة، الأمر الذي دفع جهاز الاستخبارات الإسرائيلي “أمان”، ليقدّر بأنّ مؤشرات اندلاع حرب واسعة تعتبر مرتفعة خلال العام 2023.
يرجع تأكّل الردع الإسرائيلي وتراجع الوضع الاستراتيجي للعدو إلى عدد من العوامل الداخلية والخارجية. فعلى صعيد البيئة الداخلية للعدو فإنها تمرّ بمنعطف خطير بسبب الانقسامات الداخلية السياسية والاجتماعية، والتي كشفتها، ولم تنشئها، مساعي حكومة نتنياهو لإجراء تعديلات قضائية ستفضي إلى سيطرة السلطة التنفيذية على أركان الحكم بما فيها السلطة القضائية.
وهذا ما تعتبره المعارضة انقلاباً ينفّذه اليمين واليمين الفاشي على “دولة بن غوريون” العلمانية. بينما يعتبره الائتلاف اليميني الحاكم تصحيحاً للأخطاء التاريخية التي أسسها “التيار اليساري” الذي يمثّل المركز، والتي أفضت إلى تهميش اجتماعي/سياسي/اقتصادي، للتيار اليميني وعموده الفقري في الأطراف.
انتقلت حالة الانقسام الداخلي إلى أغلب مؤسسات العدو، إلا أن مؤشرات الانقسام التي ظهرت على “الجيش”، الذي يصفه مجتمع العدو تاريخياً بأنه “جيش الشعب”، وهو بمثابة البقرة المقدّسة، تعتبر من أخطر مظاهر الانقسام الحاد على نحو أدى إلى تراجع ثقة المستوطنين بجيشهم، ومخاوف من تراجع مستوى الجاهزية في ضوء انضمام قوات من الاحتياط للاحتجاجات، ولا سيما قوات الدفاع الجوي وسلاح الطيران، الذي يعد العمود الفقري لقوات العدو.
كما أدى استمرار التظاهرات إلى تراجع في قوة الاقتصاد الإسرائيلي وتخفيض تصنيف “إسرائيل” الائتماني من إيجابي إلى مستقرّ، بحسب ما أعلنت عنه وكالة “موديز”، مبيّنة أن السبب هو أن الطريقة التي حاولت من خلالها الحكومة الإسرائيلية تنفيذ خطة “إصلاح القضاء” تشير إلى إضعاف قوة مؤسساتها، كما انخفضت قيمة العملة الإسرائيلية “الشيكل” وزاد سحب الودائع من صناديق الاستثمارات الإسرائيلية من الداخل إلى الخارج.
على الصعيد الخارجي، فإنّ البيئة الدولية تشهد تطورات سياسية وعسكرية واقتصادية، ستؤثر على هيكل النظام الدولي، وإعادة تشكيل للأدوار والسياسات والتحالفات بناء على توازن القوى الذي ستتمخض عنه المرحلة الراهنة من الصراع والتنافس على النفوذ والجغرافيا والاقتصاد بين الأقطاب والفواعل الدوليين والإقليميين.
إنّ الحرب في أوكرانيا وانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان دلّتا على تراجع الهيمنة الأميركية، كما أن انشغال الولايات المتحدة في مواجهة تحديات القوى الكبرى لها، ولا سيما الصين وروسيا، ومواجهة مؤشرات الأزمة الاقتصادية التي تتصاعد منذ جائحة كورونا، والحرب في أوكرانيا، إضافة إلى مؤشرات الانقسام الداخلي الأميركي، والتي برزت في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وتوجّهات التيار الديمقراطي الليبرالي الأقل دعماً لـ “إسرائيل”، كلّها عوامل أثّرت على مكانة العدو وثقله الاستراتيجي، كون الولايات المتحدة هي الحليف القوي والفريد من نوعه للكيان.
كما أفضت الخلافات بين الإدارة الأميركية وحكومة نتنياهو على خلفية التوجّهات الفاشية لأحزاب داخل حكومته بزعامة إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وبسبب قضية التغييرات القضائية التي تعتبرها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تتعارض مع القيم الديمقراطية المشتركة، إلى جانب تراجع الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط، والرغبة في خفض التصعيد في المنطقة، كلها عوامل أدت إلى تراجع الوضع الاستراتيجي للعدو الإسرائيلي على نحو قرأته دول التطبيع في المنطقة.
هذا الأمر أدى إلى تراجع مسار التطبيع والاتفاقات الإبراهيمية في المنطقة، وتراجع مستوى التوقعات الإقليمية بقدرات الدور الإسرائيلي على التأثير على الولايات المتحدة، على نحو برزت معه مؤشرات إعادة تموضع على المستوى الإقليمي، وإعادة ترتيب للعلاقات والأوراق بين الفواعل في الإقليم ولا سيما إيران والسعودية اللتان وقّعتا اتفاقاً لاستعادة العلاقات ومعالجة القضايا الشائكة بينهما، بوساطة صينية لافتة، أظهرت طموحات الصين بتأدية دور سياسي كقوة عظمى رائدة، تتمتع بعلاقات طيبة مع مختلف الأطراف في المنطقة، إلى جانب تطلّعاتها الاقتصادية المنافسة للولايات المتحدة.
إن العدو يستمدّ قوته وقدرته على البقاء من توافر 4 ركائز قوة أساسية، هي قوة الجيش والاقتصاد وقوة التماسك الداخلي والحصانة الاجتماعية، والعلاقات الدولية وفي القلب منها تحالفه مع الولايات المتحدة.
وما نشهده من تطورات يدلل على تراجع في مستوى قوة الركائز الأربع الأمر الذي أدى إلى التراجع في وضع العدو الاستراتيجي، على نحو يرفع من مستوى الدافعية في مواجهة العدو على مختلف الجبهات، من جهة، ويدفع العدو إلى البحث وإجراء دراسة عميقة للخيارات والبدائل لمعالجة معضلتي تأكّل الردع وتراجع الوضع الاستراتيجي في ضوء المتغيّرات من حوله، من جهة أخرى.
إلا أن كل خيارات العدو تتسم بالتعقيد، الأمر الذي يضع المشهد الإسرائيلي في حالة انعدام اليقين خلال المرحلة المقبلة، في ضوء التحدي الأخطر الذي يخشاه العدو وهو اندلاع حرب واسعة متعددة الجبهات، والخشية من فشل سياسة الفصل بين الساحات والجبهات التي يتبنّاها.
الميادين نت