مئة عام على «الدولة العربية»: الخروج من التاريخ!

دار الزمان بالعرب دورة كاملة، بعد مئة عام من انتباههم إلى هويتهم الجامعة وإلى تاريخهم العريق الحافل بالأمجاد، قبل انهيار «دولتهم» وتفرقهم أيدي سبأ، أتباعاً «لدول» شتى أخذت منهم علم الإسلام وقتلتهم به. وعشية قدوم الاستعمار الغربي ليعيد صياغة واقعهم بما يناسب مصالحه، فإذا هم ممالك وإمارات وجمهوريات عديدة يفتقر معظمها إلى أسباب الحياة.

وعندما انتبه العرب إلى أنّ الاستعمار الغربي، بريطانيا وفرنسا، وحتى البرتغال، قد توزع أقطارهم باعتبارها «تركة السلطان العثماني»، حاولوا أن يستعيدوا هويتهم الجامعة: العروبة، لكنهم كانوا أضعف من أن يرفضوا المفروض فسلموا بكياناتهم المرسومة وفق مصالح المستعمر الجديد، على أمل أن يجددوا نضالهم من أجل الوحدة، وإن استغرق زمناً طويلاً واستهلك أجيالاً منهم.

سيمضي زمن قبل أن يستفيقوا من سكرة الاستقلال ليكتشفوا أن ليس بين الكيانات المستولَدة قيصرياً، لا سيما في المشرق العربي، من هو قابل للحياة مستقلاً كامل السيادة: فالحدود رسمتها مصالح المستعمر الأقوى، (وكان آنذاك بريطانيا) أخذا بالاعتبار منابع النفط وضرورات حماية المشروع الإسرائيلي، الذي كان «وعداً أعطاه من لا يملك ـ الاستعمار البريطاني ـ لمن لا حق له فيه ـ الحركة الصهيونية».

اقتطعت أجزاء من كيانات كانت ولايات عثمانية، رسم حدودَها صراعُ الولاة ـ أيام السلطنة ـ بالذهب مع «الباب العالي» أو مع «السلطان» تارة بذريعة التنوع الطائفي أو المذهبي لسكانها، وطوراً تحت غطاء صراع المصالح بين المستعمرين الجدد. وقد لعبت الاكتشافات الأولية للنفط دوراً بارزاً في هذا المجال (العراق والشاطئ العربي للخليج ـ الكويت، دولة الإمارات العربية المتحدة، قطر..) فضلاً عن عُمان التي كانت ـ ذات يوم ـ سلطنة شبه امبراطورية تجمع معظم مشيخات ما كان يسمى «الساحل المتصالح».

بالمقابل، كان «اليمن» دولة غارقة في غياهب النسيان، جنوبها تحت الاستعمار البريطاني لتأمين الطريق إلى الهند، وأهله يتوزعون رعايا لمجموعة من «السلاطين» في عدد من القرى الفقيرة والمركز عدن، المرفأ الاستثنائي في أهميته لوقوعه على خليج يمكن للقوة العسكرية فيه التحكم ببحر العرب الذي يشكل صلة وصل بين المحيطين الهادئ والأطلسي، بينما يمسك البريطانيون بباب المندب أيضاً وصولاً إلى قناة السويس التي تربط بين البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط.

في تلك الفترة تقريباً كان مشروع المملكة ـ العربية السعودية قد أخذ يتبلور، لا سيما، وقد أغوى البريطانيون الشريف حسين، ملك الحجاز، بمشروع توحيد الديار العربية المجاورة (بلاد الشام) في مملكة عظمى، و «عينوه» قائداً للثورة العربية الكبرى… ثم لم يتوانوا عن خلعه ونفيه إلى قبرص التي مات فيها، مسهلين الطريق أمام عبد العزيز آل سعود ليمد سلطانه إلى معظم شبه الجزيرة العربية، محتفظين بشاطئها الطويل الخليج العربي، بدءاً من البصرة في العراق وحتى خليج عُمان.

ولقد دخل الأميركيون إلى المنطقة من باب نجدة الحلفاء (بريطانيا وفرنسا) في حربهم ضد المحور: ألمانيا وتركيا، مدفوعين بشميم النفط الذي كانت بعض الاستكشافات قد أكدت وجود خزين عظيم منه في شبه الجزيرة العربية، وتحديداً في جنوبها (الدمام).

كذلك كان البريطانيون قد اشتموا رائحة النفط في شمال العراق (منطقة الموصل) التي كان الأتراك يطمعون فيها، فأدخلوها في نطاق انتدابهم على أرض الرافدين حاسمين الجدل حول هويتها، لا سيما أن الفرنسيين كانوا يتطلعون إلى ضمّها لسوريا تحت سيطرتهم.

ذلك ما كان في الماضي الذي تعود أشباح مجرياته التأسيسية لواقعنا لتفرض نفسها بصياغة جديدة يتولاها أقوياء هذا الزمن بمعزل عن أصحاب الأرض التي صارت دولاً شتى، بعضها «مصطنع» وفقير بموارده وشعبه مستقطع من أهله الأقربين (الأردن كمثال… وشعبه، في الأصل، بعض شعب سوريا، ببدوها وحضرها، وقد أنشئ استرضاء للشريف حسين، وتم تثبيته بعد خلع الملك فيصل ابن الشريف حسين عن عرش سوريا لتكون لفرنسا، ثم تم التعويض عليه بعرش العراق).

وسيمضي وقت قبل أن يدرك العرب أن ابتداع «إمارة الأردن» قد جاء في سياق التمهيد للمشروع الصهيوني بإقامة دولته في فلسطين وعلى حساب شعبها الذي تم تشريده وان ظلت أكثريته في أرضها. ثم ارتأى البريطانيون أن يُضم بعض فلسطين الذي فاض عن حاجة الإسرائيليين إلى الأردن، مطمئنين إلى أن هذا الحل سيوفر الراحة «للدولة» التي تمت إقامتها بالقوة، وسيرضي تطلعات الأمير عبدالله ابن الشريف حسين إلى الملك، وهكذا أسبغ عليه لقب «صاحب الجلالة» الذي لا يقارن ألقه بالأمير أو الشريف. فالملك أبقى من النسب، ومن تعزز به.

على أن ذلك كان تدبيراً مؤقتاً. فبعد هزيمة 1967 ضمت إسرائيل الضفة الغربية إلى الأرض المحتلة، قبل ان تسلم بعد الثورة الفلسطينية وجهادها الطويل وسيل الشهداء بنوع من الحكم الذاتي فيها تتولاه سلطة لا سلطة لها، بدليل ما نشهده حالياً من مجازر يومية لا تؤثر في «السلطة» حتى بالاحتجاج!

ما أشد ما اختلف المشهد في المشرق الآن عن واقعه قبل بضع سنوات: فاليوم تبدو «كيانات» دول عربية عدة مهددة في وجودها، أو في الصيغة السياسية لهذا الوجود.

ـ اليمن، التي بذلت دماء غزيرة في استقلال جنوبها، ثم في توحيد الجنوب الذي كان مزقاً تحت الاحتلال البريطاني، مع الشمال الذي كان «مملكة» لآل حميد الدين أسقطتها ثورة الجيش والشعب في أيلول 1962، بدعم مفتوح من مصر جمال عبد الناصر وعبر مواجهة شرسة مع المملكة العربية السعودية، يكاد يكون اليوم أرض خراب: مدنها مدمرة بـ «عاصفة الأمل» التي شنها عليها ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لجعلها منطقة نفوذ لعرشه العتيد، وجيشها منقسم على ذاته بعدما اشترى الذهب بعض قيادته.

الأخطر تحريك الفتنة في بلاد لم يعرف أهلها مَن مِنهم مِن «الزيود» ومَن مِنهم مِن «الشوافع»، خصوصاً وقد كانوا يصلون جنباً إلى جنب في المسجد الواحد، ويتصاهرون بلا حرج.

باختصار، ثمة من يحلم في المملكة بأن يجعل اليمن «لبنان» جديداً، أرض سياحة وثقافة وخدمات، يحكم من خارج، ويدرأ المخاطر عن الأسرة المذهبة في الرياض.

على أي حال، لا يمن في المستقبل القريب، حتى لو توقفت الحملة العسكرية السعودية، فالشعب المنقسم على نفسه (نتيجة تقسيمه إلى جهات بعضها للمستعمر البريطاني معززاً بسلاطين المدن والبلدات في الجنوب ـ وتوزع ولاء قبائله في الشمال بين السعودية ومصر) سوف يعاني الأمرين وهو يحاول استعادة «دولته» بوحدة شعبه، الذي وجد الآن من يحرك أسباب الفتنة بين «جهاته»، مستقدماً إيران لتعزيز اتهامه في وطنيته، ولتبرير تقسيمه سياسياً على قاعدة طائفية: الزيود والشوافع.

ـ كذلك لا عراق موحداً في المدى المنظور. فلقد حركت جهات كثيرة، عربية وأجنبية، عوامل الفتنة فيه بين السنة والشيعة، فضلاً عن تحريض الأكراد على طلب «الاستقلال» في دولة كاملة السيادة بدلاً من «الإقليم» الذي سلم عرب العراق بأن يكون لإخوتهم الأكراد استقلالهم الذاتي داخل الدولة المركزية، ينال نصيبه من موازنة الدولة المركزية، وله لغته وإدارته الذاتية.

ـ ولا سوريا موحدة، دولة قوية ومهابة، كما كانت قبل خمس سنوات من الحرب التي اختلطت فيها العناصر: فهي عربية ـ دولية وإن اقتربت من أن تكون حرباً أهلية، فضلاً عن إمكان اعتبارها فتنة طائفية، يمكن أن تتأثر بما يجري في العراق (وفي اليمن)، وقد تؤثر في لبنان. الأخطر أن «حروب الداخل» في كل من أقطار المشرق تتيح لتنظيم «داعش» فرصة أن يتمدد وأن يؤسس لمناطق سيطرة يسميها «دولة الخلافة».. وبالتالي لحروب يختلط فيها الأهلي بالدولي والطائفي بالمذهبي والقومي بالعنصري الخ..

بعد قرن من النضال من أجل دول مستقلة في كيانات مصفحة بالطائفية والمصالح الأجنبية والمطامع الإسرائيلية، يرى أهل المشرق العربي أنفسهم مهددين بأن يخسروا دولهم من دون أن يستعيدوا فلسطين. بل إنهم يرون ـ بأم العين ـ تمدد النفوذ الإسرائيلي عبر الحروب بين الطوائف والأعراق، لتكون «دولة يهود العالم» الدولة الوحيدة في هذا المشرق العربي، مع احتمال أن تتمدد لتكون «امبراطورية» ما كان يسمى «الوطن العربي الكبير» بالاتكاء على حلفائها الكبار في مركزهم واشنطن ثم في سائر دول العالم، غرباً وشرقاً.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى