مائة ألف متظاهر في “تل أبيب”.. هل تتجه “إسرائيل” للتدمير الذاتي؟
نَشرْتُ مقالاً في 14 حزيران/يونيو 2021 بعنوان “هل ستندلع حرب أهليَّة في “إسرائيل”؟ وافتتحت المقال بالمقدمة التالية:
“لا تبدأ الحروب الأهليّة في الدول والكيانات عادةً بشكل مفاجئ، ومن دون مقدّمات، وغالباً ما يسبقها شحن وتوتر وتحريض على خلفيات متعددة. هناك مجتمعات تتوفّر فيها بيئة خصبة لاندلاع الحرب، مثل التعدّد الإثني والطائفي والمذهبي والتفرقة العنصرية على أساس العرق أو الدين أو اللون أو الجنس، إلى جانب حالة الاستقطاب السياسيّ والحزبيّ التي تتَّسم بخطورة أكبر عندما تُغلَّف بغطاء أيديولوجي.
وما يعزّز ضعف المناعة المجتمعيّة هو غياب الهدف الموحّد والقيمة العليا والهوية الجمعيّة التي تحظى بتوافق وشبه إجماع شعبيّ، بغض النظر عن الخلفيات السياسية والدينية والأصول العرقية للمجتمع.
إنَّ الكيانات التي تنشأ بفعل الاحتلال والاستيطان على حساب الشعب الأصلي، غالباً ما تفتقد هُويةً جامعةً وغايةً موحّدةً، ما يعزّز هشاشة المجتمع فيها وضعف بنيانه.
ما تشهده الساحة الصهيونية منذ عدة سنوات ليس غريباً، ولا يعكس حالة استثنائية من الزاوية الاجتماعية السياسية؛ فعوامل الانقسام والتشظي حاضرة منذ نشأة هذا الكيان الإحلالي على أرض فلسطين” .
انتهى الاقتباس.
تشير الأحداث داخل الكيان أنه انتقل خطوة أخرى نحو رفع مستوى الاستقطاب الداخلي الحاد، فبعد التصريحات والاتهامات المتبادلة بين الحكومة والمعارضة، والتحذير من نشوب حرب أهلية، تظاهر نحو 100 ألف من مستوطني كيان العدو مساء السبت في ساحة “هبيما” في “تل أبيب” المحتلة، وكذلك في مراكز مختلفة في القدس وحيفا المحتلتين، ضد سلسلة الإجراءات والقوانين التي تنوي حكومة نتنياهو الفاشية تنفيذها ضد المنظومة القضائية.
تأتي التظاهرة الحاشدة، بعد سلسلة احتجاجات نفذتها المعارضة الإسرائيلية ضد توجهات حكومة نتنياهو لإحداث تغييرات جوهرية على النظام القضائي، بما يخدم مصالح اليمين الصهيوني ورموزه، ومنح نتنياهو الضوء الأخضر لوزير القضاء في حكومته ياريف ليفين لإدخال إصلاحات على الجهاز القضائي، واتهم المتظاهرون الغاضبون ليفين بزعماء النازية.
وأصدر عمداء كليات الحقوق في المؤسسات الأكاديمية في جميع أنحاء الكيان بياناً يدين الإصلاح المخطط له من قبل وزير القضاء ياريف ليفين في النظام القضائي، وحذروا من أن الإصلاح يهدّد ما سمّوه الطبيعة الديمقراطية والشاملة لـ “إسرائيل” والمبادئ الأساسية لنظامها القانوني، وأن التغييرات ستسمح بالتمييز والإقصاء غير المناسبين ضد مختلف الفئات.
صدرت تصريحات لافتة لمختلف رموز المعارضة قبل التظاهرة الاحتجاجية الحاشدة وأثناءها، والتي عكست حالة الاحتقان الداخلي الحاد، ويمكن وصف حدة التصريحات والاتهامات المتبادلة بغير المسبوقة داخل الكيان، وأبرزها:
– وزير الأمن السابق بيني غانتس: “إذا استمرت حكومة نتنياهو في هذا الطريق فستكون مسؤولة عن اندلاع حرب داخلية، لقد حان الوقت للخروج بأعداد كبيرة والتظاهر ضد حكومة نتنياهو العنصرية، لقد حان وقت الخروج وزعزعة البلد”.
– في أعقاب اجتماع لرؤساء أحزاب المعارضة (لابيد، غانتس، منصور عباس، ليبرمان، ميخائيلي)، أكد غانتس أن أحزاب المعارضة ستعمل معاً ضد محاولة سحق الديمقراطية الإسرائيلية، حسب وصفه.
– رد نتنياهو على غانتس قائلاً: “أنت لم تحصل على تفويض لتدمير الديمقراطية وتدمير النظام القانوني -إذا واصلت طريقك فستكون مسؤولاً عن الحرب الداخلية التي ستنشأ في المجتمع الإسرائيلي”.
– تلقى أحد أعضاء الكنيست من حزب “يش عتيد” مكالمة هاتفية مفادها “ستتلقى قنبلة في المنزل” بعد ما أجرى مقابلة تلفزيونية.
– دعا نائب رئيس الأركان السابق إلى تمرد مدني واسع النطاق ضد الحكومة.
– طالب عضو الكنيست من حزب عوتسما يهوديت تسفيكا فوغل باعتقال بيني غانتس ويائير لابيد بتهمة الخيانة.
– عقب يائير لابيد رئيس حكومة العدو السابق قائلاً: في يوم واحد يحدث الآتي: بن غفير يهدّد باستخدام شاحنات رش المياه ضد متظاهرين، عضو الكنيست فوغل يقول إنه يجب إلقاء القبض علينا أنا وغانتس ووضعنا في السجن بتهمة الخيانة، وفي بئر السبع حاولوا دهس طلابنا لأنهم يحتجون ويمارسون حقهم في حرية التعبير.
– هدّد لابيد نتنياهو بقوله: لن ندعهم يدوسوننا وسنتظاهر ضدهم على الرغم من تهديدهم لنا.
– اتهم وزير الأمن الأسبق أفغيدور ليبرمان نتنياهو بأنه العامل الرئيسي في تحريض مواطني “إسرائيل” ضد بعضهم البعض.
– هاجمت الحركة الداعية والمنظمة للاحتجاجات وتدعى “الأعلام السوداء”، نتنياهو، قائلةً: “انقلاب نتنياهو لن ينجح، وسيواجه شعب إسرائيل الطغيان، وأعمال الشغب التي اندلعت الليلة هي مجرد بداية لنضال لا هوادة فيه لشعب لن يتنازل عن فصل السلطات وقيم المساواة والحرية”.
– عضو الكنيست السابق يائير غولان، أحد منظمي التظاهرة في “تل أبيب”: قال: “إنهم في طريقهم للقضاء على الديمقراطية، وسنرد بتمرد مدني يتمثل بإضرابات وتظاهرات “.
تؤكد التطورات الجارية من تصريحات واتهامات وتظاهرات، فشل العدو في تحقيق الهدف الإستراتيجي منذ نشأته، وهو صهر المجتمع في إطار هوية جامعة وهدف أوحد، والحد من حدة الاستقطاب السياسي والأيديولوجي، وغدت منظومته المجتمعية أكثر تأكّلاً وتشتتاً، واتسعت الهوة القائمة بين العلمانيين والمتدينين، وتفاقمت حالة العداء المتصاعدة بين الأحزاب، ما أدى إلى انهيار “الإجماع الوطني”.
لقد تنبّه عدد من المفكّرين الصهاينة باكراً إلى مخاطر اندلاع حرب أهلية إسرائيلية، ومنهم أفشلوم فيلان، الذي أكَّد أنَّ فرص وقوعها قائمة، نظراً إلى الانقسام الحادّ بين المتديّنين والعلمانيين والانقسامات العميقة بين الإثنيات اليهودية المتعددة. ويرى فيلان أنَّ اليمين المتطرّف يمثّل تهديداً وجودياً لـ”إسرائيل”، وأنه سيقود ما سمّاه “الخراب الثالث للهيكل المزعوم”.
تدلل المؤشرات الداخلية للعدو أن الاحتقان الداخلي تحوّل إلى أزمة عميقة تصعب معالجتها، وهو يتدحرج نحو صراع مبني على رفض الآخر، وعدم القدرة على التعايش، وفشل نظرية الانصهار التي حلم بها ديفيد بن غوريون، فالصراع الداخلي الإسرائيلي لم يعد صراعاً حزبياً أو سياسياً، بل صراعاً أيديولوجياً مبنياً على الكراهية ورفض الآخر، الأمر الذي سيقود إلى حالة أشبه بالتدمير الذاتي للعدو ستفضي إلى هجرات عكسية هرباً من المصير المجهول.
الميادين نت