مائة عام على اتّفاقيات سايكس- بيكو

بعد حملة نابوليون بونابرت على مصر في طريقه لإسقاط السلطنة العثمانية، اشتدّ الضغط الأوروبي الاستعماري طوال القرن التاسع عشر على المنطقة العربية بأشكال مختلفة أدّت إلى سقوط العديد من الولايات العثمانية السابقة تحت السيطرة الإنكليزية والفرنسية، بأسماء متعدّدة منها الحماية والوصاية والانتداب. وعندما دخلت السلطَنة الحرب العالمية الأولى، لم يكن قد تبقّى لها سوى ولاياتها في المشرق العربي. فجاءت اتّفاقيات سايكس – بيكو لعام 1916، وهي في الأصل سايكس – بيكو – سازانوف، أي إنكليزية – فرنسية- روسية، لتُخضِع المشرق العربي قسرياً للهيمَنة الأوروبية.

أُنشِئت عصبة الأمم لإطلاق نظام الانتداب الذي استمرّ على الأراضي العربية المشرقية طوال فترة ما بين الحربَين العالميّتَين، وأسَّس للدول القائمة حالياً في العراق، وسوريا، ولبنان، وشرقي الأردن، ودولة فلسطين التي لم تبصر النور بعد أن هيمنت إسرائيل على غالبيّة أراضيها، علماً أنّ اتّفاقيات سايكس – بيكو لم تُنفَّذ وفق بنودها الأصلية، بل طُبِّقت بموجب اتّفاق جنتلمن بين كليمنصو، رئيس وزراء فرنسا، ونظيره لويد جورج، رئيس وزراء بريطانيا لعام 1919.

لا بدّ إذن من تبديد الانطباعات السائدة التي خلّفتها الدراسات التاريخية العربية حول موقع اتّفاقيات سايكس – بيكو في تاريخ العرب المعاصر. فاستناداً إلى مضمونها الأساسي والظروف التاريخية التي رافقت الإعلان عنها، يُبرِز التقييم العلميّ أنّ تلك الاتّفاقيات كانت ذات طبيعة مُلتبسة في تاريخ العرب المعاصر. فهي تَستكمِل المرحلة الأخيرة من مشروعات استعمارية غربيّة ضدّ العرب بشكل عامّ، وتؤسِّس لمرحلة جديدة في تاريخ المشرق العربي المعاصر بشكل خاصّ. فقد شكّلت تلك الاتّفاقيات حلقة بارزة من ضمن مشروعات السيطرة الأوروبية على الأراضي العربية في المشرق العربي. وتزامن الكشف عنها من قبل الثورة البولشفية مع الإعلان عن وعد بلفور الذي أسّس لولادة دولة إسرائيل التي لا تزال تخوض حروباً مستمرّة ضدّ العرب طوال المائة عام المنصرمة.

وفي نهاية الحرب الباردة التي كرّست الولايات المتّحدة الأميركية زعيمة القطب العالمي الأوحد بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي، بادر السياسي الإسرائيلي شمعون باريز إلى الكشف عن مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي يكرّس زعامة إسرائيل على منطقة الشرق الأوسط بأكملها. واستغلّت إسرائيل الظروف الملائمة التي أفرزتها الانتفاضات العربيّة المأزومة لعام 2011، للعمل على تفكيك الدول العربية المجاورة لها، ولإعادتها إلى مكوّناتها القبلية والمذهبية. وقد أسهمت في ولادة تيّارات أصولية وتكفيرية رفعت شعار “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، أي تنظيم “داعش” الذي بدأ بإلغاء الركيزة الأولى لاتّفاقيات سايكس – بيكو التاريخية عبر إزالة الحدود الجغرافية المُعترَف بها دولياً بين العراق وسوريا.

تبدو الأوضاع العربية اليوم سوداوية للغاية. فهناك دول كبرى تتصارع على الأراضي العربيّة، وتحوّلت بعض دولها بيئةً حاضنةً للتكفيريّين والإرهابيّين، تستدرج تدخّلات إقليميّة متحالفة مع أنظمة تسلّطية تخوّفت من انتصار الانتفاضات الشعبيّة التي رفعت شعارات ذات طابع إنساني تندّد بالاستبداد والإرهاب، وتُطالب برغيف الخبز مع الكرامة، وبحقّ الشعب بالحرّية والتغيير الديموقراطي السلمي. ونجحت في نضالها السلمي بإسقاط بعض الأنظمة التسلّطية من دون أن تنجح في إقامة نظام ديموقراطي سليم على امتداد العالم العربي. وتعرّضت الآثار العربية لنهبٍ منظّم وتدمير معالم حضارية موغِلة في القدم، وتتضمّن رموزاً بارزة للثقافة العربية والإسلامية بأبعادها الإنسانية الشمولية.

قادت الحروب العبثية في السنوات الخمس الماضية إلى تهجير ملايين النازحين في الداخل والمهاجرين إلى الخارج. فأحدثوا أزمات خطيرة للبلدان المُضيفة. وبعد أن طال أمد تلك الحروب، وسُدَّت الآفاق أمام الحلول السلميّة لها، باتت الهجرات القسرية العربية الراهنة توصف بأنّها أكبر هجرة في التاريخ المعاصر. ولعبت وسائل الإعلام، المقروءة منها والمسموعة والمرئية، دوراً إعلامياً يتراوح بين التغطية الموضوعية نسبياً والتحريض السياسي والطائفي في غالب الأحيان. فأحدَثت شرخاً عميقاً داخل المجتمعات العربية التي تشهد اليوم انقسامات حادّة في أكثر من دولة عربية. وتحوّل الرأي العام العربي إلى كتلة بشرية مهمَّشة تتعرّض لكلّ أشكال التشويه السياسي والثقافي، وهي عاجزة عن حماية نفسها من مخاطر الصدامات الداخلية والتدخّلات الإقليمية والدولية.

تبدو المنطقة العربية اليوم أسيرة صراعات إقليمية ودولية تُنذِر بإطلاق مشروعات تقسيميّة جديدة أكثر سوءاً من اتّفاقيات سايكس- بيكو التاريخية، وتحوِّل الصراع على السلطة إلى صراع دولي يعتمد معايير مزدوجة:

الأولى: تبنّي مقولة “الفوضى الخلّاقة” لإسقاط بعض الأنظمة التسلّطية العربية القائمة بالقوّة من دون ممارسة ضغط حقيقي لإقامة أنظمة ديموقراطية مكانها.

الثانية: استخدام القوّة العسكرية لحماية الأنظمة التسلّطية القائمة ورفض الاعتراف أو التفاوض مع أيّ معارضة مسلَّحة تعمل على إسقاط النظام بالقوّة العسكرية. ما جَعَل الأزمات العربية في كلٍّ من ليبيا، وسوريا، والعراق، واليمن مُعولَمة بالكامل.

ومع تطوّر الحرب المستمرّة لتصفية تنظيم داعش في سوريا والعراق، تزايد دور قوّات الحماية الكردية بأشكال متنوّعة في كلا البلدين. وبرزت إلى العلن دعواتٌ تنادي بقيام دولة كردستان الكبرى على حساب الدول الأربع التي تحتضن جماعات كردية وهي سوريا، والعراق، وتركيا، وإيران. فقابلتها ردود فعل شاجبة لقيام دولة كردستان الكبرى، أو للحكم الذاتي للأكراد، أو لانفصال المجموعة الكردية أو تمايزها داخل الدولة المركزية التي تقيم فيها. ووضعت تركيا خطوطاً حمراء ضدّ هذا التوجّه الكردي، ثم تطوّر بشكل سريع ليتحوّل إلى حرب تركيّة مُعلنَة على مشروعات الأكراد المستقبليّة تحت يافطة الاستقلال أو الانفصال أو الفدرالية، أو الكونفدرالية. وحذّرت دول أخرى من الترويج لمقولة حقّ الأكراد المشروع في إقامة الدولة المركزية الكردية التي حرمتهم منها اتّفاقيات سايكس – بيكو المعروفة لعام 1916. وبرز موقف متصلّب لكلٍّ من تركيا وإيران يرفض بشدّة قيام الدولة الكردية. واحتدمت المواجهات العنيفة في المناطق الكردية بين الجيش التركي وحزب العمّال الكردستاني في المناطق الحدودية بين تركيا وكلٍّ من سوريا والعراق. وحذّرت إيران القوى التي تعمل على تغيير خارطة الشرق الأوسط الحالية مستخدمةً ورقة الانفصال الكردي، واعتبرتها وثيقة الصلة بالمشروع الأميركي – الإسرائيلي لتفكيك منطقة الشرق الأوسط. واللافت للنظر أنّه على الرغم من ضبابية الموقف السياسي والعسكري في الدول العربية المنتفِضة، بادرت شركات عالمية وإقليمية ومحلّية إلى تقديم عروض سخيّة لنيل حصّة وازنة في مشروعات إعادة إعمار البنى التحتيّة في سوريا والعراق قبل الإعلان عن نهاية الحرب. مردّ ذلك إلى أنّ النزاعات الداخلية المستمرّة منذ خمس سنوات دمّرت نسبة كبيرة من البُنى التحتيّة، والمصانع، والمؤسّسات، والمنازل وغيرها. وهناك تساؤلات كثيرة حول الكلفة العالية جدّاً التي ستدفعها الشعوب العربية ثمناً لحروب عبثية مدعومة من الخارج من دون أن تحظى تلك الشعوب بالحدّ الأدنى من الحرّية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية، والمساواة، والاستقرار، والأمن، والتعليم، والصحّة، والعمل .

دلالة ذلك أنّ المآسي التي سبّبتها الحروب العبثيّة المستمرّة في العالم العربي منذ أكثر من مائة عام تستدعي عقد كتلة تاريخية عربية كبيرة، بالمفهوم الغرامشي، لمنع التجْزئِة الجديدة في العالم العربي.على أن تستقطب نسبة كبيرة من مختلف الشرائح السياسية والثقافية والاجتماعية والنقابية العربية، والنخب الثقافية داخل الوطن العربي وخارجه. ويُعتبر الإعلان عن انعقاد الملتقى الأول لهذه الكتلة بمثابة تظاهرة قوّة عربية بأبعادٍ وطنية وقومية وثقافية وحضارية وإنسانية وسياسية واقتصادية واجتماعية في آن واحد. ولدى العرب طاقات بشرية كبيرة، ولديهم موارد طبيعية هائلة، ونخب ثقافية وساسية متميّزة وقادرة على تغيير وجه العالم العربي في جميع دوله. فالمعركة الدائرة حالياً داخل المنطقة العربية ليست بين أنظمة تسلّطية وقوى تكفيرية وظلامية فحسب، بل معركة ثقافية وحضارية وسياسية بالدرجة الأولى. واستذكار اتّفاقيات سايكس – بيكو – التاريخية في العام 2016 يحمل الكثير من الدلالات. علماً أنّ فشل تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير في تغيير خارطة الدول العربية القائمة، يتمّ الآن بدعمٍ خارجي ولا يقدِّم حلولاً عقلانية للمشكلات العربية. وبالتالي، فالنخب العربية الديموقراطية، على اختلاف توجّهاتها، مطالبة بحماية حدود الدول العربية القائمة، والعمل على إدخال التغيير الديموقراطي معاً. وذلك يتطلّب نشر العلوم العصرية والتكنولوجيا المتطوّرة لتحقيق التنمية البشرية والاقتصادية المُستدامة على مستوى كلّ دولة عربية، وبناء التكامل الاقتصادي، والتفاعل الثقافي، وحماية التعدّدية والتنوّع، واحترام الرأي الآخر في العالم العربي.

ختاماً،إنّ تغيير حدود الدول التي نشأت على قاعدة سايكس – بيكو القديمة يطال تاريخ العرب ومستقبلهم في جميع أقطارهم. وبعد مائة عام على اتّفاقيات سايكس – بيكو التاريخية، تبرز مخاطر مشروع الشرق الأوسط الكبير بقيادة أميركية- إسرائيلية. وهدفه إعادة رسم خارطة المنطقة العربية لضمان أمن وسلامة دولة إسرائيل والمجتمع الإسرائيلي الذي يعيش حالة قلق على المصير في ظروف إقليمية ودولية غير مستقرة. ويدرك العرب أنّ الدعم الخارجي وحده لا يقدّم حلولاً عقلانية لمشكلات شعوب عربية منتفِضة تبحث عن الحرّية، ورغيف الخبز مع الكرامة. وهو عرضة لمساوماتٍ دولية على حساب العرب في جميع أقطارهم. ما يستوجب وقف الحروب العبثيّة المتفجّرة الآن في العالم العربي، وتشكيل كتلة تاريخية عربية فاعلة تتصدّى للتنظيمات التكفيرية والإرهابية في الداخل، ولاستراتيجيّة إسرائيل ودول إقليمية وعالمية تعمل على تجْزئِة جديدة للتجْزئة التاريخية التي حلّت بالعرب عام 1916.

*مؤرّخ وكاتب لبناني

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى