ماثيو هيوز: ما فعله الاستعمار البريطاني بفلسطين
بداية، في الوقت الذي يتدافع فيه أعراب كيانات الخليج القصبية وعرب سايكس ــــ بيكو ومرتزقتهم النباحون للوم الضحية وإدانتها وتوثيق علاقاتهم العلنية مع المجرم المعتدي ومنحه حقاً مزعوماً في فلسطين، مدعومة بهذه الزعامات الفلسطينية الميليشيوية الفاشلة بل والمتواطئة، تبقى فلسطين قضية كل القوى والشعوب الداعمة لقضايا الحرية والعدالة في العالم، كما يبقى تاريخ نضال الشعب الفلسطيني وحاضره ضد الاستعمار البريطاني والاستعمار الصهيوني ــــ الاستيطاني في فلسطين المادة الأكثر وروداً في الأعمال الأكاديمية. فلا يكاد يمر شهر من دون صدور مؤلفات جديدة عن مختلف جوانب المأساة والقضية وجرائم المغتصب الصهيوني، غالبيّتها العظمى بأقلام بحّاثة وأكاديميين من الغرب، مع بعض المؤلفات بأقلام باحثات وبحّاثة فلسطينيين عملت على عرض كثير منها في الماضي وسأواصل عمل ذلك مستقبلاً.
يتناول «إخضاع فلسطين: الجيش البريطاني والدولة الاستعمارية وثورات الفلسطينيين» (منشورات جامعة كامبريدج ــــ 2019)، سياسات الاستعمار البريطاني في فلسطين ضد الثورات الفلسطينية على المحتل البريطاني والمستعمِر الصهيوني وفي مقدمتها ثورة 1936/1939 الشهيرة وكيفية تمكنه من إلحاق الهزيمة بها، ما أفسح في المجال لتمكّن العصابات الصهيونية من السطو على بلادنا وطردنا منها. وفي الوقت الذي ننوّه فيه إلى هذا المؤلف وغيره مما نعرضه في هذا المنبر، فذلك لا يعني إطلاقاً قبولنا بكل ما يرد فيه من تحليلات واستنتاجات وتوصيفات، وغضّه الطرف بل صرفه النظر عن حقائق أخرى، أولاها أن ما يسمى حرب فلسطين التي شاركت فيها كيانات سايكس ــــ بيكو المختلفة والقوات المصرية والبريطانية كان هدفها تقاسم فلسطين بينها. نحن ننوّه إليه لأنه يعرض للمرة الأولى التاريخ العسكري للاحتلال البريطاني في فلسطين اعتماداً على الوثائق الرسمية ذات الصلة المفرج عن سريتها، وهي مقاربة لم يسبق لبحّاثة أن تعاملوا معها بهذا العمق.
لنتذكر أن هذه الأيام تشهد حملات دعائية يقودها الغرب الاستعماري تهدف إلى شيطنة النازيين ووحشيتهم تجاه الشعوب التي أخضعوها، متجاهلين حقيقة يعلمونها علم اليقين هي أن الألمان تعلّموا تلك الوحشية من جرائم بريطانيا وفرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة وغيرها تجاه الشعوب المستعمَرة. وإذا كانت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي قد أعربت عن فخرها بدور بلادها في فلسطين، فإن هذا المؤلف يوضح للمرة الألف العاشرة بعد الألف المئة أنه يتلخص في سلسلة مترابطة من الجرائم الوحشية بحق أهل البلاد، إضافة إلى التطهير العرقي والمشاركة المباشرة في قمع الفلسطينيين وإخضاع قواهم الوطنية لتمهيد الطريق أمام العصابات الصهيونية للاستيلاء على فلسطين. هذا المؤلف لأستاذ التاريخ العسكري في «جامعة برونيل» ماثيو هيوز، يوضح على نحو جلي الأساليب الهمجية التي اتبعها المحتل الإنكليزي في فلسطين بهدف تسهيل مهمته القاضية بتحويلها إلى وطن لليهود.
يقول الكاتب إنه بعد غزو فلسطين في عام 1917، أنشأ البريطانيون حكومة مدنية حكمت بمراسيم استخدمها جيش الاحتلال البريطاني بهدف القضاء على ثورات شعبنا في بلادنا. لقد عانى الفلسطينيون لأكثر من مئة عام من الوحشية والإذلال المنتظمين تحت الاحتلال العسكري. وعندما احتلت بريطانيا فلسطين وحوّلتها إلى جزء من إمبراطوريتها بعد الحرب العالمية الأولى، كانت في حاجة إلى طرق لقمع المقاومة منذ اللحظة التي بدأ فيها الاحتلال عام 1917 وحتى اللحظة التي انتهى فيها عام 1948.
يولي الكاتب أهمية لقصة الضابط البريطاني أورد وِنغيت الذي أدار خلال الثورة الممتدة من عام 1936 إلى 1939، «فرقاً ليلية» من الجنود البريطانيين والمستوطنين اليهود الذين روّعوا القرى الفلسطينية. لكن خلف أسوأ الفظائع، يكمن نظام التسلط والإذلال والفقر والعقاب الجماعي المدعوم بقوانين عقابية.
يقول هيوز إن البريطانيين قاتلوا الثورات الفلسطينية من خلال العقوبات اليومية البسيطة التي استهدفت الفلسطينيين جميعاً لأن الثورة على الحكم البريطاني حظيت بدعم جماهيري واسع النطاق. فالثورة كانت انتفاضة من أسفل، والإضراب كان حركة عفوية تحظى بدعم جميع فئات الشعب العربي تقريباً وفق تقارير إدارة الاحتلال، وتم إبقاء الثورة حية من خلال الضغط من الأسفل. رد الاحتلال البريطاني كان: نظام قانوني شامل سهّل القمع الواسع النطاق والمهين الذي قيّد الفلسطينيين واحتجزهم وفقرهم وشنقهم وقتلهم وهدم منازلهم. فقد حظرت الصحف واعتقل الناس، وغرِّموا ونُفُوا وفرضت رقابة على مراسلاتهم وبريدهم ومكالماتهم الهاتفية وتمت مصادرة الماشية والمحاصيل، وجلد أصحابها وفرض حظر التجول على قرى بأكملها، وصودرت جثامين الشهداء وفرضت قيود على السفر.
تلك القوانين جعلت الغناء والصراخ والتلويح بالأعلام غير قانوني، حتى شراء بندقية لعبة أطفال أو حتى الاجتماع في مقهى.
حتى قبل بدء الثورة، أعطت السلطات البريطانية جنودها وقوات الشرطة صلاحية هدم منازل الفلسطينيين وتغريم قرى بأكملها وجعلوا من «التواطؤ» مع المقاومة أو الفشل في دعم الشرطة جريمةً. يقول الكاتب: «أكثر أعمال الهدم الفردية إثارة تلك التي حدثت في يافا القديمة في حزيران (يونيو) عام 1936، فقد تم شق ثلاث طرق في المدينة القديمة لا تزال قائمة إلى يومنا هذا. فبعد إخطار يومين فقط، تم توزيع منشورات بريطانية باللغة العربية على المدينة لإبلاغ السكان بأن منازلهم على وشك التدمير حيث استخدم الجيش المتفجرات لهدم 220 مبنى وتشريد نحو 6000 من سكانها.
تتم المقارنات في جميع أنحاء الكتاب بقمع الثورات الاستعمارية في إيرلندا وكينيا والملايو وعدن، إضافة إلى الجزائر. للعلم مجمل ضحايا الفلسطينيين في تلك الثورة بلغ نحو خمسة آلاف شهيد مسجلين من الرجال والنساء والأطفال، مع أن عدد رجال المقاومة طوال تلك الفترة لم يزد على 1500 مقاتل غير منظّمين ومسلحين تسليحاً بالياً (200 رجل منهم قتلهم الإنكليز شنقاً).
ختاماً، ثمة ملاحظة مهمة أوردها الكاتب تستحق التنويه إليها هنا وهي أن أحد أسباب هزيمة الثورات في فلسطين أن زعماء البلاد كانوا ينسّقون مع الزعماء العرب الذين كانوا بدورهم خاضعين لبريطانيا وينفّذون سياساتها… وما أشبه اليوم بالأمس.
صحيفة الأخبار اللبنانية