لما اصطدمت الإدارة الأميركية بثبات حزب الله سياسياً، وتماسك البيئة الحاضنة ومحور المقاومة من خلفه، على الرغم من كل شيء، أدركت أن لا مفر من التعامل بجدية مع لبنان.
تَغِيب أو تُغَيَّبُ، بالتدريج، مجريات عمليات قوات الاحتلال البرية جنوبي لبنان عن وسائل الإعلام الغربي الرئيسة منذ شهرٍ تقريباً، ويبدو أن إبعادها عن بؤرة الضوء، إعلامياً، بدأ بعد أن راحت تتسربل بتعثرها العلني، سواء من زاوية بطء تقدمها وعجزها عن إحداث اختراقات حقيقية في البر الجنوبي، أو من زاوية فشلها في الإمساك بأي قطعة أرض جنوبية بصفةٍ دائمة ومستقرة.
برز هنا، من قبيل الاستثناء ربما، تقرير لوكالة “أسوشييتدبرس” في 16/11/2024، نقلته قناة ABC الأميركية ومواقع أخرى، عن معارك قرية شمع، والتي خرج منها العدو الصهيوني مدمى الأنف، تحت عنوان انتصاري يوحي بالعكس، وهو: “القوات الإسرائيلية تبلغ أعمق نقطة في لبنان منذ غزو الـ1 من أكتوبر”.
فإذا كان مجرد الوصول إلى بلدة شمع، على عمق 5 كيلومترات من “الخط الأزرق”، يمثل “انتصاراً”، بعد نحو شهر ونصف شهر من العمليات المكثفة آنذاك، وبعد تكبد قوات الاحتلال على حافة جنوبي لبنان أكثر من 200 قتيل وجريح، بحسب اعترافاتها المنقوصة وقتها، من دون تمكنها من الإمساك حتى بتلك الحافة أو بالسيطرة على مسرح العمليات، فإن من الصعب حقاً أن يتخيل المرء صورة الفشل أو الهزيمة بعدها.
بدأ الإعلام الغربي يشيح بوجهه المتحيز عن وقائع الميدان اللبناني الجنوبي إذاً على خلفية تطورين مهمين في مسار الحرب، بصورةٍ لم تزدد إلا وضوحاً مع كل فجرٍ جديدٍ يشرق على الجنوب، وهما:
أ – قدرة قوات حزب الله في الخطوط الأمامية على إبقاء عجلات الغزو الصهيوني البري تراوح مكانها، لتغرق أكثر فأكثر، مع كل دورةٍ مفرغةٍ جديدة، في رمال جنوب لبنان المتحركة. وكان الاجتياح، الذي بدأ في 1/10/2024 الرابع منذ عام 1978، إضافةً إلى حملتي “تصفية الحساب” عام 1993 و”عناقيد الغضب” عام 1996.
ب – قدرة غرفة عمليات حزب الله على دوزنة إيقاع الصواريخ والمسيرات المتجهة إلى فلسطين المحتلة، انتظاماً وتصعيداً، وحافةً وعمقاً، وعلى مواصلة زخم إطلاقها يومياً، حتى من حافة الحافة، على الرغم من مزاعم العدو أنه دمر 80% من مخازن المقاومة الصاروخية.
راحت وقائع الميدان، مع تبلور هذين التطورين، تفرض حضورها في المشهد السياسي مباشرةً، وخصوصاً في تشكيل مخرجات الجولات التفاوضية للمبعوث الأرميكي آموس هوكشتاين، اليهودي، والمولود في الكيان الصهيوني، والذي خدم في قوات الاحتلال، وأحد أعمدة اللوبي الصهيوني في واشنطن، قبل ضمه رسمياً إلى الخارجية الأميركية في ظل الرئيس الأسبق باراك أوباما.
لكنّ عودة حزب الله إلى الوقوف على قدميه بعد سلسلة الضربات التي تعرض لها، وأداءه المتميز ميدانياً وصاروخياً، وتماسك قيادته وثباتها سياسياً ومبدئياً على خط السيد حسن نصر الله، وتمكنها من إدارة الدفة بكفاءة في خضم الأمواج المتلاطمة، لم تَرُقْ لمن توهموا، من “تل أبيب” إلى بعض الداخل اللبناني، ومن واشنطن إلى عواصم حلف “الناتو”، أن الأمر استتب لهم في لبنان، وأن المعركة حُسِمت في أيلول/سبتمبر، وأن الغزو البري وحملة القصف الوحشي التي سبقته منذ 23/9/2024، والتي رافقته حتى اليوم، ليسا إلا لقطف ثمار حملة اغتيالات وتفجيرات قاصمة لن يقوى حزب الله على الاستمرار من بعدها.
كفّت الإدارة الأميركية عن التوسط وإدارة العملية التفاوضية عندما ظنت أن الإجهاز على حزب الله في متناول اليد، وأن تعليق التفاوض يمثل بذاته أداة ضغط على لبنان.
ولم تعد إلى وساطتها المكوكية إلا بعد أن أدركت أن قراءتها للمشهد اللبناني أضغاث أحلام، وأن حساب الغرف المظلمة لم يطابق نتائج الميدان، فتوسطت في البداية بما يحقق للعدو الصهيوني سياسياً ما عجز عن تحقيقه عسكرياً، ورهانها دوماً على الأثر المعنوي للمجازر والدمار، التي قدمت إلى العدو الصهيوني وفرةً وافرةً من السلاح والمال والدعم متنوع الأشكال كي يقترفها، بأن تزعزع العزائم وتجوّف المواقف وترقق البنيان.
فلما اصطدمت الإدارة الأميركية بثبات حزب الله سياسياً، وتماسك البيئة الحاضنة ومحور المقاومة من خلفه، على الرغم من كل شيء، أدركت أن لا مفر من التعامل بجدية مع لبنان.
خلق ذلك فجوةً يصعب ترميمها تفاوضياً ما لم يحقق العدو الصهيوني أهدافه من إطلاق الحملة البرية والجوية على لبنان، وما بقي حزب الله ثابتاً صلباً صابراً، كما عهدناه دوماً، في رفض المساومة على وقف العدوان الصهيوني، وفي رفض استباحة لبنان، وفي إسناد غزة طبعاً.
وإذا توقف العدوان موقتاً، فإن من المرجح استئنافه، تماماً كما حدث في هدنة غزة قبل عام بالضبط، أو كما حدث عشية العدوان على لبنان عام 2006، لأن تخلي الكيان الصهيوني، في ظل صعود محور المقاومة، عن مشروع إعادة تشكيل الواقع الاستراتيجي لـ”الشرق الأوسط” الذي أعلن عنه نتنياهو في بيان صادر عن مكتبه في 29/9/2024، عشية اغتيال السيد حسن نصر الله، يعني بداية نهاية للمشروع الصهيوني في فلسطين، لا في المنطقة فحسب. وكان ذلك البيان فعلياً ملخصاً لفحوى خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة في 27/9/2024.
تبقى الكلمة للميدان إذاً، كما قالها السيد حسن نصر الله. والميدان، وثبات الموقف سياسياً ومبدئياً، كي لا تضيع منجزات الميدان، هما وحدهما الورقة الرابحة التي يمكن أن نبني عليها.
أما التلهي بمخرجات المحاكم والهيئات الدولية، فنوافل ربما تفيد البعض في تسجيل بضع نقاط في الغرب، إعلامياً ودبلوماسياً، لكنها تضر أكثر مما تنفع إذا اعتمدناها مرجعيةً لعملنا السياسي، أو في تناول قضية الصراع الوجودي مع الكيان الصهيوني. فهي تؤكد دوماً حق الكيان الصهيوني في الوجود الآمن، كما أنها تدين المقاومة بصفتها إرهاباً، بدلالة إصدار المحكمة الجنائية الدولية قراراً باعتقال محمد الضيف إلى جانب نتنياهو وغالانت، وكانت تلك المحكمة وضعت القائدين الشهيدين يحيى السنوار وإسماعيل هنية في قائمة الاعتقال أيضاً، لولا ارتقاؤهما.
أضف إلى ذلك أن تلك القرارات، بمقدار ما تنتقد العدو الصهيوني، تعكس إلى حد ما صراع الحزب “الديموقراطي” في الولايات المتحدة، وما يوازيه أوروبياً، مع حكومة نتنياهو المصرة على جر “الناتو” إلى حرب ضد إيران في خضم صراع متصاعد مع روسيا والصين، والمصرة على ارتكاب المجازر والدمار من دون تمييز، ومن دون أي مراعاة لصورة الغرب الجماعي وحساباته وعلاقاته في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وحتى صورة حكوماته أمام قطاع من شارعه ما برح ينزل إلى الميادين والساحات مصدوماً من هول الجرائم الصهيونية، المدعومة غربياً، في غزة ولبنان.
في جميع الأحوال، متى احترم العدو الصهيوني القرارات الدولية؟ ومتى كان “القانون الدولي” هو الذي يحسم الصراعات السياسية الوجودية؟ وثمة قرار وقف إطلاق نار مثلاً صادر عن مجلس الأمن في غزة في 10/6/2024، لم تمارس الولايات المتحدة ضده “حق” النقض، لكنه لم يوقف العدوان على غزة، ولا الدعم الغربي للعدوان الصهيوني فعلياً، مع كل التحفظات على بعض البنود الواردة فيه، لأن ثمة علاقة عضوية بين الغرب الجماعي والحركة الصهيونية العالمية لا تقتصر على إنشاء قاعدة مشتركة لهما في فلسطين المحتلة.
من الأجدر تركيز انتباهنا إذاً على ما هو أكثر أهمية من الهيئات الدولية ومحاكمها، وخصوصاً مع إعلان وزير الحرب الصهيوني إسرائيل كاتس، في 14/11/2024، توسيع الحملة البرية في لبنان، ومع استمرار حملات القصف الهمجي في لبنان من دون توقف.
يتمثل الأمر الأكثر أهمية في هذه المرحلة، وفق رأيي المتواضع، بالسعي لقراءة الخطوات التالية للعدو الصهيوني بعد تعثر حملته البرية في لبنان، بحسب تقارير جديدة نُشِرت في بعض مراكز الأبحاث والمواقع النخبوية المعادية، صراحةً أو مواربةً، بما لا تغطيه وسائل الإعلام الغربية.
يقول “معهد دراسة الحرب” ISW المحسوب على المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، في تقريرٍ له بعنوان “نحو فهم لحملة “إسرائيل” لهزيمة حزب الله في لبنان”، في 21/11/2024، إن “حملة الجيش الإسرائيلي تهدف إلى الاستفادة من عملياته الجوية والبرية لجعل حزب الله غير راغبٍ في مواصلة إطلاق النار على شمالي إسرائيل، بدلاً من محاولة تدمير قدرات حزب الله على تنفيذ مثل هذه الهجمات بالكامل”.
يمثل هذا إعلان فشل، في الواقع، عن تدمير قدرات حزب الله الصاروخية، كما يمثل اعترافاً بأن حملة المجازر والدمار ضد البيئة الحاضنة تستهدف ابتزاز حزب الله سياسياً، وخصوصاً أن الحملة البرية متعثرة تماماً.
يضيف التقرير ذاته أن حملة تفجير أجهزة النداء واللاسلكي عطلت منظومة الاتصالات الداخلية في حزب الله، وأنها شلت آلية السيطرة والتحكم في الحزب، ومهدت من أجل عملياتِ “جيش الدفاع الإسرائيلي” في لبنان، “وقد تؤدي جهود التعطيل إلى إخراج العدو موقتاً من المعركة، لكن التعطيل لا يمثل أبداً غاية في حد ذاته، وإنما هو وسيلة لتحقيق غاية”، وهو ما يمثل بدوره اعترافاً ضمنياً بأن الحزب تجاوز الضربات التي تعرض لها.
يشير التقرير أيضاً إلى أن كبار المسؤولين “الإسرائيليين” أعربوا عن نيتهم دفع حزب الله إلى شمالي نهر الليطاني، “لكن العمليات البرية للجيش الإسرائيلي كانت محدودة من حيث نطاق وعمق الاختراق”.
كما أن حزب الله “حافظ على معدلٍ ثابتٍ من الهجمات داخل “إسرائيل”، وهو ما يشير إلى أن العمليات الإسرائيلية الحالية بمفردها ربما لا تكون كافية لتحقيق أهداف الحرب المعلنة إسرائيلياً”، وأن “إسرائيل” تعتقد أن الضغط عسكرياً على حزب الله، بما يكفي، سوف يجبره، سياسياً، على قبول ترتيب وقف إطلاق نار يعزز قوات “اليونيفيل” والجيش اللبناني في الجنوب، وحرية عمل “الجيش الإسرائيلي” في لبنان.
يصل التقرير إلى خلاصة مفادها أن العمليات “الإسرائيلية” في لبنان سوف تستمر وتتوسع حتى يوافق حزب الله على إنهاء الحرب بتلك الشروط.
يشير اللواء الركن أران أورتال، من جهته، في ورقة نشرها في 7/11/2024، بعنوان “مقامرة جيش الدفاع الإسرائيلي في لبنان”، في موقع “معهد بيغن – السادات للدراسات الاستراتيجية”، وهو معهد تابع لجامعة بار إيلان في الكيان الصهيوني، إلى أن وحدات حزب الله القتالية في جنوبي لبنان تعرضت لضررٍ أقل كثيراً من الضرر الذي تعرضت له المستويات القيادية، وأنها بقيت قادرة نسبياً على استعادة توازنها وتفعيل نفسها.
يضيف أورتال: “على المستوى الاستراتيجي، يضمن السماح لقوات العدو البرية في الجنوب بالبقاء سليمة معافاة إعادة تأهيل المنظمة في المستقبل”، وأن ذلك يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار حتى لو وافق حزب الله على وقف إطلاق نار، وأن ذلك يؤكد أن تكتيكات “الحرب على الإرهاب”، مهما كانت ناجحة، ليست بديلاً من بناء قدرات عسكرية حاسمة، وأن ذلك المنظور يجب أن يكون أساس مقاربة “إسرائيل” لهزيمة حزب الله استراتيجياً.
يدعو أورتال جيش الاحتلال في ورقته إلى عدم الاصطدام بالقوة الصماء لمقاتلي الحزب، وإلى العمل، عوضاً من ذلك، على تطويقها عبر تحريك فرق عسكرية بأكملها بسرعة على خطوط أنهار الليطاني والزهراني والأولي، عميقاً في الجنوب اللبناني، وفرض الاستسلام على قوات الحزب من خلال الاستمرار فب حرمانها من العودة إلى حالة من التوازن العملياتي، و”تفكيك المصفوفات التكتيكية في الجنوب بالطريقة نفسها التي فككت بها مصفوفات القيادة في بيروت”.
يقول أورتال أيضاً إن الحركة السريعة لقوات كبيرة هي وحدها القادرة على حرمان الخصم من تفعيل ميزته التكتيكية في الأسلحة المضادة للدبابات، وإن البقاء على الحافة على أمل قبول الحزب بوقف إطلاق نار هو مجرد مقدمة لحرب مقبلة يتعلم فيها حزب الله من أخطائه ويعيد ترتيب صفوفه، وإن إنهاء الحرب بتسوية سياسية، كخيار يمكن اللجوء إليه بشرط عودة المستعمرين المستوطنين إلى شمالي فلسطين المحتلة، يجب أن يرتبط باستراتيجية واضحة لزيادة قدرات “إسرائيل” عسكرياً، لا بالتعامل مع حزب الله من منظور “مكافحة الإرهاب”.
لكنّ نزعة اجتثاث قوى المقاومة في فلسطين ولبنان من طرف الكيان الصهيوني، بمقدار ما تنجح، سوف تدفع إيران إلى تعزيز قدراتها الصاروخية والنووية، بحسب تقرير في مجلة “فورين بولسي” الأمركية في 19/11/2024، بعنوان “مفارقة الردع الإسرائيلي”، الأمر الذي سيدفع الولايات المتحدة إلى التورط مباشرةً في الصراع.
لذلك، يحذر التقرير الرئيس الأميركي الجديد، دونالد ترامب، من دعم حكومة نتنياهو من دون تحفظ، لأن ذلك سيجر الولايات المتحدة إلى حلبة الصراع في حين يجدر بها “أن تحول تركيزها نحو ردع العدوان الصيني في منطقة شرقي آسيا البحرية”.
باختصار، أَعِدّوا العدة، لأننا مقبلون على مزيد من الصراعات، ولو تخللتها هدن، وذلك ما يخطط له الطرف الأميركي – الصهيوني على الأقل.
الميادين نت