ماذا عن الثقافة والمثقفين

 

منعت من السفر خارج البلاد في عهد من العهود بسبب موقف لي عاقبتني عليه السلطة آنذاك، وحين طالت علي المحنة أفادني أحد ضباط المخابرات ممن تشاء المصادفة أنه كان تلميذي في إحدى المدارس ذات يوم بقوله :

– أقول لك هذا من باب حفظ الجميل حتى تأخذ حذرك ممن تعاشرهم من المثقفين فلقد حدث أن قراراً كان سيتخذ بإلغاء المنع عنك ثم عدلنا عنه بسبب تقارير كانت تصلنا ضدك دوما، ومن المؤسف أنها كانت من عمل كتاب زملاء لك لا أستطيع أن أبوح لك بأسمائهم ولكنهم يدّعون بأنهم ممن تعاشرهم و تبوح أمامهم ببعض أفكارك المناوئة للنظام …

أذكر جيدا أن هذا التصريح سقط علي ، كما يسقط مرض مفاجئ، ولم أجد جواباً ملائماً على ما سمعت. هل هذا معقول أن زميلاً في الثقافة والكتابة أسرّ له بعذاباتي من مكنوناتي ثقة به، وبأن المجالس بالأمانات كما يقولون يخونها واش حقير !! و منذ ذلك اليوم فقدث الكثير من ثقتي بمن أجالسهم من الكتاب و المثقفين …

لم تكن هذه الحادثة هي الواقعة الوحيدة من نوعها فقبلها وبعدها نزلت بي نوازل شبيهة كانت تدفعني إلى الشك بفئات المثقفين أنهم لا يقلون سوءاً عن غيرهم من الوشاة  وأن الثقافة لا تشكّل كما يبدو حصانة أخلاقية كافية لحماية الإنسان من سقطات الفساد ، فهل هي الثقافة السبب في هذا الإنحطاط الأخلاقي ؟!.

يخيل لي أن المسألة ليست في الثقافة ذاتها فهناك كتاب ومثقفون آخرون أثق بهم ، ذلك أن الثقافة لا تحمل محتواها الحقيقي كاملاً وإنما بما ترفدها من كفاءات نفسية قد نفطر عليها وقد نكتسبها بالمران والدربة والوعي المتنامي، ومنها جميعا كما أتصور يتوفر المناخ الصحي لإنضاج شجرة الحياة في الكائن العاقل، والحياة على جمالها وروعتها كظاهرة كونية خارقة قاسية بقدر ما هي رحيمة والثقافة المكتسبة ليست سوى أداة من أدوات مقاومة الضعف البشري وهو يواجه الشدة ، و هذه الثقافة لا تستحق كامل جدارتها إلا بمقدار ما تدفعنا على التفكير بالنقص الذي يعتروها كي نسده بدلا من التوهم أننا أكتملنا و أن هذا الكمال هو الذي يحمينا من النقائص فالكمال – كما يقال – لله وحده !.

إن الثقافة المعرفية أشبه ببحر نطفو فوقه غير أننا لا نحسن الغوص في أعماقه إلا بالحصانة الأخلاقية التي لا تتوفر لنا بالعلم النظري وحده إذ لم ترفده الخبرة الواقعية التي تحمي حقا نزعة الخير فينا من مغالطات الشر الكثيرة و المتنوعة !.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى