ماذا يمكن أن تتعلّم أوروبا من الفلسفة العربية؟

 

كتب مايكل فري كتاباً رائعاً عن المفكّر السياسي المعاصر ناصيف نصار الذي كرّس حياته، منذ عام 1967، تاريخ إنجاز أطروحته عن ابن خلدون، في درس مسألة نظام اجتماعي عادل داخل لبنان وخارجه. اليوم، يقدم Frey محاولة أولى عن أعمال نصّار بلغة أوروبية. محاولة يقول فيها فري إنه يتعيّن، على أي شخص يخطط لخدمة الفلسفة من خارج أوروبا، توفير أدوات المائدة الصحيحة، وإلا فلن يمتلك أيّ شخص – بصرف النظر عن عدد قليل من المتخصصين في هذا المجال – الأدوات اللازمة لفهم ما يجري هنا ونوع الفكر الذي تنطوي عليه.

لذلك، بدأ مايكل فراي كتابه mit Gemeinsinn Liberalismus (الليبرالية والحسّ السليم، فلسفة ناصيف نصّار السياسية في السياق اللبناني) الصادر باللغة الألمانية (2019) بالسؤال العام: كيف يمكن للمرء قراءة الفلسفة العربية المعاصرة؟

يقدّم فري لفيلسوف غير معروف إلى حدّ كبير في الغرب، على الرغم من أنه أنتج مجموعة واسعة من الأعمال، وقرّاؤه كثر في العالم العربي: ناصيف نصار، المولود في عام 1940، كان أستاذاً في الفلسفة في الجامعة اللبنانية حتى تقاعده في عام 2005. بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في الفلسفة في جامعة السوربون، عاد إلى وطنه في عام 1967 ومنذ ذلك الحين توقّف عن النشر باللغة الفرنسية، واختار الكتابة باللغة العربية بدلاً من ذلك.

كانت روح التفاؤل السياسي في الستينيات من القرن الماضي أكثر جاذبيةً للمؤلف الشاب من مهنته في الغرب. في بيروت، قام بتدريس فكرته عن نظام سياسي اجتماعي جديد في بيئة أكاديمية: الجامعة، وفي الوقت نفسه قام بتدريب معلمي الفلسفة على العمل في المدارس. بعد انحسار الاستعمار، وفي دول الشرق الأوسط، كان الجدل الدائر حول كيفية جعل تلامذة المدارس قادرين على التفكير المستقل، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتطور الفلسفة كنظام أكاديمي. هنا، أصبح نصار ناقداً نشطاً لأي شكل من أشكال النظرة للعالم المغلق، والفيلسوف السياسي الذي ما زالت أعماله تنشرها أهم دور النشر العربية.

يقتبس فري من زميله المغربي محمد مصباحي الذي يصف الفلسفة، مثل الكثير من المحتجّين المغاربة، بأنها «مثيرة للمشاكل»، تختبر باستمرار الخطوط الحمر. مايكل فري قادر على توضيح حيوية النقاشات الفلسفية مع مجموعة متنوّعة من الإشارات التبادلية الرائعة إلى وسائل الإعلام العربية، الرقمية والتناظرية. ويشير إلى الأصوات المختلفة بين بيروت والدار البيضاء التي تعزو إلى مزيد من الثقة بالنفس مما يحدث في كثير من الأحيان خارج المنطقة. في عام 2018، تمّ تكريم ناصيف نصار من قبل «معهد باريس/ موند» العربي، بالتعاون مع الجامعة الأنطونية في بيروت، على عمله في حياته.

يمهّد فري بمقدمات مستقلة إلى اثنتي عشرة دراسة وست مجموعات من المقالات للفيلسوف. هذا بحد ذاته عمل مثير للإعجاب، ويستحق قراءة الكتاب لهذه المقدمات وحدها. فري قادر على قطع مساحات كبيرة من الفهم من خلال مجموعة العمل هذه.

يُنشر كتاب مايكل فري في وقت يناضل فيه لبنان مرة أخرى من أجل تقسيم عادل للسلطة، ويصبح التمثيل النسبي الديني موضع تساؤل جوهري. لذلك، إنها لحظة جيدة أن نتعرف إلى مفكر لبناني بمجموعة ناضجة من العمل حول الليبرالية والديمقراطية والعدالة، والتي لدينا الآن مقدمة أولى بلغة أوروبية.

تبرز نقطتان أساسيتان في عمل نصار ككل: التغلب على التفكير الأيديولوجي الذي يقود المجتمعات إلى الهاوية السياسية مراراً وتكراراً، ومسألة نظام اجتماعي عادل. النقطة الأخيرة، على وجه الخصوص، بدأها منذ نشر كتابه The Logic of Power أو «منطق السلطة ـ مقدمة لفلسفة الأمر» في عام 1995.

يشير فري إلى المكان الذي يرتبط فيه فكر نصار بفلسفة الحداثة الغربية، وكيف يثير في الوقت نفسه أسئلة وجودية تهمنا جميعاً. «أخذ كل من نصار وهوبز التفكّك الطائفي لمجتمعيهما وتجارب الناس من الظلم داخلهما كأساس لإعادة التفكير في السياسة». ويضيف فري: «من يقارن نقطة انطلاق نصار بتقييم هيلموث بلاسنر للمجتمع بدلاً من الإحساس بالانتماء للمجتمع على أساس الانتماء الديني». من المرغوب فيه أن يقرأ كتاب فري من قبل الفلاسفة وعلماء الاجتماع في الغرب، أم أن الكتاب محدد للغاية؟ ما الذي يجب على المؤلف العربي أن يسهم فيه في النقاش الأنغلو- أوروبي؟

بالنسبة إلى مايكل فري، فإن هذا التفاعل غير مرغوب فيه ببساطة من الناحية الأكاديمية؛ من الضروري أن نتفق على«السلطة متعددة الثقافات لمفاهيم مثل العدالة والتسامح والحرية وحقوق معينة في عصر العولمة المتقدمة».

كيف تقف الأمور حالياً في أوروبا، على سبيل المثال، مع الشروط المجتمعية المسبقة لليبرالية وروح المجتمع؟

قد يكون، من الاهتمام، التفكير المتبادل، هنا؟ ما الذي يمكن أن يقدمه النموذج الليبرالي للمجتمع في عصر الشعوبية – وقبل أي شيء، لمن؟ ماذا سيحدث عندما لا ترغب أغلبية في أوروبا أو الولايات المتحدة في الديمقراطية؟ كل هذه الأسئلة تتطلب عناية عاجلة تتجاوز الحدود المألوفة.

تم فتح المناقشة (حتى الآن على الأقل) للآخرين في اتجاه واحد فقط. يجب أن توضح هذه الأسئلة أن الفلسفة يمكن أن توفر تضامناً حقيقياً يأتي من روح العقل – هذه هي الطريقة التي يجب أن نفكر بها في جوهر عمل نصار، والذي يرفض فيه جميع أشكال النسبية الديمقراطية التي أصبحت منتشرة على نطاق واسع في القرن الحادي والعشرين.

تمّ نشر كتاب فري في وقت كان فيه لبنان يقاتل مرة أخرى من أجل تقسيم عادل للسلطة، وأصبح التمثيل النسبي الديني موضع تساؤل جوهري. كما رأينا في الأسابيع القليلة الماضية، يرغب الكثير من المواطنين في التخلص من شكل سخيف من ديمقراطية الحصص، والذي تمّ فرضه أيضاً على العراق في عام 2003. وتجدر الإشارة إلى أن فري، في نهاية دراسته، يقدم توقعات متفائلة لمنطقة العالم العربي! لقد أثبتت الاحتجاجات أن الأفكار التحررية والنقدية ترفض أن تُمحى، وأنها «تسري بشكل متزايد في مجال الحياة اليومية أيضاً».

فشلنا في ترجمة وقراءة المفكرين مثل ناصيف نصار (وغيره من الفلاسفة غير الأوروبيين) يؤدي في كثير من الأحيان إلى استنتاج خاطئ مفاده أنه لا يوجد مفكرون ناقدون أو ينتقدون أنفسهم، أو أي نقاش عام حولهم.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى