لا شك أن تجربة الولوج إلى عالم مخرجي السينما، ومُتابعة نتاجهم السينمائي المُمتد، تُمثل إغراء كبيراً، لا من أجل الدراسة الأكاديمية، لكن بدافع من شغف التنقيب عن الجديد غير المطروق في عوالمهم الإبداعية. والناقد السينمائي أمير العمري مولع بإعادة الاكتشاف، وقراءة ما تيسر من أعمال فناني السينما، سواء عبر مقالات ودراسات متنوعة المحتوى، أو من خلال كُتب مُسهبة التفاصيل.
في كتابه “مارتن سكورسيزي سينما البطل المأزوم” يصحبنا العمري إلى عالم فنان السينما المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي حيث يطرح عبر صفحات الكتاب البالغة نحو 360 صفحة، والصادر عن دار رشم للنشر والتوزيع بالمملكة العربية السعودية بالمشاركة مع جمعية السينما، ومهرجان أفلام السعودية، قراءة مُتأنية في أفلام هذا المخرج المرموق، من زاوية شديدة الخصوصية، ألا وهي أزمة البطل المُحاصر في حياته، وفق خياراته الذاتية، التي دوماً ما تجعله يقع في إطار خانق، لا تَملك حياله الشخصية، أيّ رغبة في التبدل والتَغيّر، وإن وُجدت أصبحت مستحيلة التحقق، نظراً لتوافرها بعد نقطة اللاعودة.
وبالتالي لا يعمد الكتاب إلى البحث في رقعة أفلام سكورسيزي كاملة، لكنه يختار بعضا منها، مما يقع تحت طائلة هذه الزاوية الدرامية، ويبلغ عددها العشرين وهي التي وقعت في دائرة البحث والتحليل، وعبر هذه الأفلام، يُمكن متابعة مدى التطور الذي لازم المخرج خلال مسيرته، سواء على مستوى الطرح الفكري، أو ما يقابله على مستوى التعبير الفني، فالبداية كما يسرد الكتاب هي الاحترام والتقدير للسينما الأوروبية، ثم تحولت تدريجياً هذه النظرة المشوبة بالتقدير، إلى التأثر بهذه المدارس والأساليب الحداثية المُختلفة فكراً وتنفيذاً عن السينما الأميركية، التي تعمد إلى غلبة عناصر الإبهار، ومن هنا تمكن سكورسيزي من إضفاء مذاقه الشخصي، وهو المزج بين السمات الأسلوبية الأوروبية وتطويعها وفق رؤيته هو الذاتية، والعناصر الشكلية التي تُميز السينما التي ينتمي إليها، ويلعب في إطارها الإنتاجي.
قبل أن يقتحم الكتاب عالم سكورسيزي السينمائي، يعود بنا إلى الماضي، حيث النشأة والبيئة المُحيطة، وكيف أثرت هذه العوامل وأصبغت روافد إبداعه وفكره بملمح خاص به، وبصمة لا تخص سواه، فمن بين جدران أسرة إيطالية الأصل، وبين أحضان حي إيطاليا الصغيرة في نيويورك، جاءت طفولته، التي اقتنصت عيونها العصابات الإيطالية الصغيرة التي تضخمت وتوغلت واتسع نشاطها الإجرامي في شوارع الحي، ومن ثم انعكس مدى تأثير النشأة على ما تلى ذلك من أفلام، مثل “الشوارع القذرة” (Mean Streets) إنتاج عام 1973 و”الأولاد الطيبون” (Good fellas) إنتاج عام 1990، وغيرها من الأفلام، التي تظهر من خلالها تبعات سيطرة الجريمة المُنظمة عبر المافيا الإيطالية، المُنتشرة والراسخة في شوارع نيويورك، والتي لا تخلو مدينة مثلها كذلك من الأبرشيات، التي تنثر أجراسها قبسات من الإيمان.
يقول سكورسيزي في أحد اللقاءات الصحفية “كل ما أردت أن أكونه في حياتي، هو أن أصبح راهباً، ولا شيء آخر”، وهنا يكشف الكتاب عن رغبة صاحب “الإغواء الأخير للمسيح” بأن يًصبح كاهناً، فالتربية والنشأة لهما تأثير لا يُضاهى في هذه الناحية، وانعكست على أفلامه، حيث تبدو الشخصيات مُحمّلة بحس ديني، وإن كان مُستترا، لكنه يُسلم نفسه لإغراء الظهور الضمني، ومن ثم يتبدى تلقائياً عبر بناء الشخصيات ذاتها، التي دوماً ما يبدو حسها ذو الواعز الديني أو الكَنسي، حاضراً بطريقة أو بأخرى، وعند هذه النُقطة يُزاح الستار عن سر المقولة الشهيرة عن سكورسيزي بأنه بدلاً من أن يُصبح رجل دين، وجد ضالته في السينما.
اعتمد الكتاب في تقديمه للأفلام المعنية بأزمة البطل المأزوم، منهجا خاصا، يُمكن حصره في ثلاثة محاور، الأول، مُتابعة المراحل الأولية للفيلم، وكيف تَشكل في عقل صانعه، والخطوات الإنتاجية المًصاحبة للمشروع قبل خروجه للصالات، مثلما يقول الكاتب في المُقدمة “المخرج يأتي إلى الفيلم من فكرة أولية ليست في الحقيقة شيئاً ملموساً بعد، بل مجرد فكرة نظرية”.
ثم ينتقل بعد ذلك للمحور الثاني، وهو الأهم، أي تحليل الفيلم فكرياً على مستوى المضمون وما يرغب في قوله والتعبير عنه، ثم الإجابة عن السؤال الأساسي، وهو هل نجح في إيصال ما يرغب من هموم وأفكار؟ وما يوازي هذا الجانب من ناحية فنية وبصرية، ميزت أسلوب سكورسيزي، مثل حركة الكاميرا والتكوين، وغيرها من النواحي الإخراجية، التي تُميز مخرجا عن غيره من منتجي السينما.
أما المحور الثالث، فيتعمق فيما بعد عرض الفيلم، وبيان ردود الأفعال النقدية، التي صاحبت عروضه الجماهيرية، وفي هذه النقطة، نرى كيف تم استقبال هذه الأفلام، في موطنها على وجه التحديد، بما يكشف عن تباين في الآراء بشأنها، وقد تراوحت بين التقدير الواسع والاحترام الكبير لموهبة سكورسيزي من ناحية، والمبالغة في رفض هذه الأفلام، وتبني آراء بعيدة عن السائد من ناحية أخرى، ويبدو أن الأكاديمية الأميركية، تنحاز لهذا الاتجاه، إلا أن أرقام الإيرادات لها قول آخر، حيث حققت أغلب الأفلام نجاحاً لا بأس به في العروض المحلية والدولية.
وبنظرة بانورامية يُمكن ملاحظة مدى حجم الجهد المبذول، فاللجوء إلى هذا الكم الواسع من المصادر والمراجع المرفقة أسماؤها في متن الصفحات، بالإضافة إلى القراءة المُتأنية والتحليل الدرامي للأفلام قيد الدراسة، يجعل من الكتاب مرجعاً رصيناً لأفلام سكورسيزي.
وبالتالي يضع الكتاب القارئ أمام تجربة هذا المخرج الأميركي المعجون بالموهبة، والعشق اللامحدود للسينما، الذي سبق له في السنوات الأخيرة، أن أنتقد طغيان أفلام النوعيات الأخرى الموجهة للترفيه، كالأفلام المُنتجة عن شخصيات “مارفل” أو “دي سي” وغيرها من أفلام شخصيات الكوميكس، ليُعبر عن انحياز كامل وصريح للسينما الأصيلة، تلك التي لا تُخاطب غريزة مّا، أو تلعب على الإثارة اللحظية، لكنها تنطلق إلى الأعمق من أجل البحث والتأمل في المصير الإنساني، وفي تأثير دورة الزمن على الإنسان، ذلك الكائن المهموم والحائر بين الانطلاق وراء شظايا نفسه الموسومة بالإغراءات، أو الوقوع في أسر أوهام الذنب، وسراب العبور من الخطيئة إلى بر الإيمان.
مجلة الجديد اللندنية