’’ماكرون‘‘ وأسباب وصوله إلى رئاسة فرنسا

يعكس انتخاب الرئيس الفرنسيّ إيمانيول ماكرون ظاهرةً جديدة تماماً في فرنسا، ربّما تكون علامة فارِقة في عصرٍ مختلف وجدير بأن تُرسَم ملامحه لقارىءٍ عربيّ لطالما كانت الوقائع الفرنسيّة تشدّه وتثير فضوله. قد يحتاج البحث العودة إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر للعثور على ظاهرة أخرى ليست مُشابِهة تماماً، لكنّها تقطع مع سياقٍ سابق عليها، وأعني بذلك انتخاب بونابرت الثالث رئيساً للجمهوريّة الفرنسيّة الثانية، ومن ثمّ انقلابه على الجمهوريّة بعد انتهاء مدّة ولايته وتأسيس النظام الإمبراطوري الثاني.

معلوم أنّ بونابرت الثالث، هو حفيد الأوّل من أخيه لويس ملك هولندا، الأمر الذي دفع كارل ماركس في حينه إلى إطلاق حكمه الشهير على الرجل بقوله إنّ انقلاب بونابرت الأوّل في القرن الثامن عشر كان مأساة حقيقيّة وانقلاب الحفيد هو مهزلة موصوفة، علماً بأنّه انطلق في مشروعه من بريطانيا التي كان لاجِئاً سياسياً فيها، وحظي بدعمٍ بريطانيّ، في حين نرى ألمانيا اليوم تقف بقوّة إلى جانب الرئيس الجديد.

تحمل رئاسة ماكرون معاني مأسويّة وهزليّة في آن معاً، هي محصّلة لواقعٍ فرنسيّ مختلف ولطبقة سياسية فرنسية قيد التشكُّل. فمن المعروف أنّ الذين سبقوه الى قصر الإليزيه كانوا جميعاً قد مارسوا أفعال “القتل السياسي” لخصومهم ومنافسيهم. لقد تطلّب الأمر أكثر من ثلاثة عقود، حتّى يصبح فرانسوا ميتران رئيساً للجمهورية، وكان عليه أن يقصي ألآن سافاري الأمين العامّ الأهمّ للحزب الاشتراكي المولود في مؤتمر أبيناي، وأن يهمِّش من بعد ميشال روكار، وأن يُخضِع آخرين في سيرورة جديرة بكاتب دراميّ إلى أن وصل إلى رئاسة الجمهورية ولم يغادرها إلّا بعد ولايتَين ناجزتَين من 14 سنة وفق نظام الرئاسة السابق.

وما كان جاك شيراك أحسن حظّاً من ميتران لجهة اختصار وقت الوصول إلى الإليزيه، فهو أيضاً أقصى مجموعة من رجال السياسة الديغوليّين الذين اعترضوا طريقه أو لاحت من جانبهم بوادر طموح رئاسي، ومن بين هؤلاء ميشال نوار وفيليب سيغان وإدوار بالادور وسواهم.

ولم تكُن فرص نيقولا ساركوزي وفرانسوا هولاند أفضل بكثير من ميتران وشيراك، فقد تطلّب الأمر أن يكرِّس الأوّل حياته السياسية لأكثر من عشرين عاماً من أجل الوصول إلى هذا المنصب إلى حدّ أن أحد الصحافيّين سأله ذات يوم: “ما طموحك بعد رئاسة الجمهورية؟”.

لقد خاض ساركوزي مناورات ماراتونيّة داخل حزبه، وابتعد عن جاك شيراك، ثمّ اقترب من إدوار بالادور، واستند إلى شارل باسكوا ليبتعد عنه ويقترب من برناديت شيراك في حركةٍ لولبيّة قادته إلى إعادة تشكيل الحزب الديغولي وفقاً لطموحه الرئاسي وليصل إلى الإليزيه بعد صراعٍ مرير.

أمّا هولّاند، فقد كان عليه أن يدير الحزب الاشتراكي لأكثر من عشر سنوات متواصِلة، وأن يختار لحظة استقطاب داخله لكي يخرج من بين الأقطاب مرشَّحاً وفائزاً برئاسة قد تكون الأضعف والأقلّ أهمّية في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة. ولعلّ هذا الضعف المأسويّ، هو الذي يُفسِّر صعود ماكرون العاصف إلى سدّة الرئاسة الأولى.

الجانب المأسويّ في هذه الظاهرة يتّصل بفرنسا الأوروبية وعلاقتها بألمانيا “المسلَّحة” باقتصادٍ قويّ يُمكنه أن يفرض الصحو والشتاء في الاتّحاد الأوروبي، ناهيك برئيسة وزراء “بيسماركية” بقفازات ديمقراطية. لقد تدخّلت ميركل بقوّة حتّى يؤول الأمر إلى هذه النتيجة؛ ذلك أنّ ألمانيا تدرك أنّ اقتصادها القوي لا يكفي منفرداً لإدارة الاتّحاد الأوروبي، وأنّها بحاجة ماسّة إلى فرنسا ذات الاقتصاد الخامس عالميّاً والموقع الرابع أحياناً أو الخامس أحياناً أخرى في العلاقات الدوليّة. لقد شعرت ميركل بالخطر على المشروع الأوروبي بعد خروج بريطانيا وظهور قوى فرنسية مُعتَبَرة تُطالِب بـ”الانعتاق” من الاتّحاد الأوروبي والعودة إلى الوراء، وجاء فوز دونالد ترامب ليصبّ الماء في طاحونة التيّار المُناهِض للاتّحاد الأوروبي المركنتيلي، يميناً ويساراً. وللشعور بالخطر دلالاته الواقعية على الأرض، ذلك أنّ مجموع الأصوات التي حصل عليها هذا التيّار تقترب من الـ20 مليون صوت، أي ما يقارب نصف الهيئة الناخبة المقدّر عددها بـ47 مليون صوت، لكنّ هؤلاء يتوزّعون على قوى مصنَّفة في أقصى اليسار وأقصى اليمين وبعض الوسط وأنصار البيئة، وبالتالي لا شيء يجمعهم سوى العداء للسيّدة ميركل. هكذا بدا أنّ معركة الرئاسة الفرنسية، هي في أحد أهمّ وجوهها، معركة أوروبية، وعليه كانت قضية حياة أو موت بالنسبة إلى الاتّحاد الأوروبي.

تحمل زيارة ماكرون إلى الاتّحاد الأوروبي بُعيد انتخابه رئيساً علامة انتصار لقوى التحالف الفرنسي الألماني الذي رسم حدوداً فاصلة بين فرنسا الأوروبية وخصومها تُقدَّر بفارقٍ في الأصوات وصل إلى ما يقارب الـ15 في المائة، وهي نسبة انتصار مرتفعة جدّاً بالقياسات الفرنسية. وإذا كان صحيحاً أنّ هذا الفارق قد يتراجع كثيراً لو كان المُنافِس غير مارين لوبن، فالصحيح أيضاً أنّ مراكز القوى واللّوبيات ومعاهد التفكير والأبحاث، شكّلت ائتلافاً لا يُقهَر خلف ماكرون، إلى حدّ منحه عنواناً لحزبه في مؤسّسة مونتاني الثريّة والعريقة وأبلسة خصومه في استطلاعات الرأي وفي النشرات الإخبارية.

رئيس الجمهورية الجديد يدرك تفاصيل هذه اللّعبة، ومساراتها، فهو المساعد السابق لـبول ريكور، المفكّر الفرنسي اليميني العبقري، الذي سبق له أن شنّ حملة ناجحة على التيّار البنيوي في فرنسا طاولت كبار مفكّريه، من ميشيل فوكو إلى لويس ألتوسير إلى كلود ليفي ستروس. وماكرون تزوّج من سيّدة بورجوازية في مدينته أميان يشرف أهلها على صناعة الشوكولا، وزوجها السابق كان كادراً كبيراً في قطاع المصارف، ومن بعد بَذَل جهداً في التواصل مع صنّاع كبار للرأي العامّ والنخب، من بينهم جاك أتالي وآلان منك، ومن ثمّ انخرط سريعاً في السياسة إلى جانب هولاند في إدارة قصر الإليزيه بتوصية من أتالي الاشتراكي، ومنها الى قطاع المصارف، ومن بعد وزيراً للاقتصاد، ومن ثمّ الاستقالة والتحضير للمنافسة الرئاسية من خارج المؤسّسات الحزبيّة.

بدا ماكرون رئيساً افتراضياً ملكاً، يحتاج إلى تنصيب فوقع تنصيبه على إيقاع “نشيد الفرح” الأوروبي الذي برع الألمان في استخدامه مع سيمفونية بيتهوفن التاسعة في العهد النازي، ووجدوا أنْ لا ضَير في جعْلها نشيداً للاتّحاد الأوروبي. في تلك اللحظة بدا أنّ مرشَّح الاتّحاد الأوروبي، هو الذي فاز في رئاسيّات فرنسية مُصمَّمة وديمقراطية، كما تُصمِّم دور الأزياء فستاناً يليق بالمناسبات الكبرى.

في فرنسا، لا جدوى من البحث عن ما بعد الرئيس، ذلك أنّ دستور الجمهورية الخامسة قد صُمِّم على هيئة الجنرال ديغول التاريخي الذي رضي بإنقاذ بلاده من مغامرات الجمهورية الرابعة، شرط أن يُعطى صلاحيّات مُطلَقة يحسده عليها ملوك كبار، وما زال الدستور مُعتمَداً، وما زال الرئيس قادراً على حلّ المجلس النيابي وإقالة الحكومة وإعلان الحرب وتوقيع السلم والحكم بمواد دستورية قاطعة وفقاً لقاعدة 49 فاصل ثلاثة.

سيحتاج ماكرون بطبيعة الحال إلى جمعية وطنية تعطي حكومته الثقة، وقد يحصل على هذه الأغلبية من دون صعوبات تذكر، فالرأي العامّ الفرنسي الذي انتخبه بنسبة مرتفعة جدّاً من الأصوات، لن يحرمه من وسائل الحكم، وعلى رأسها الأغلبية البرلمانية. لكنّ السؤال هو ما الذي سيفعله خصومه، وهل تصمد أكثريّته أمام أوّل اختبار جدّي ومعظمها من الحزبيّين السابقين؟

من الصعب الإجابة بصورة قاطعة عن هذا السؤال، وعن أسئلة أخرى مُشابِهة، لكنّ المؤكَّد هو أنّ الرئيس الجديد سيواجِه كتلاً نيابية ذات نبرة عالية ممثَّلة بالسيّدة مارين لوبن والسيّد جان لوك ميلانشون، فضلاً عن كتلة تحدٍّ اشتراكية وكتلة أخرى ديغولية، وسيعمل هؤلاء الخاسرون على أن تكون أيامه صعبة منذ اليوم الأوّل للولاية وحتّى آخر دقيقة فيها.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى