ما أسوأ أن تكون ميّتا ….
قال حفّار القبور يخاطب معاونه ورفيق عمره الميّت دون سبب مقنع ” انهض أيها الجبان الكسول ,اخلع عنك هذا الكفن الأبيض الناعم دون جيوب والبس ثوب العمل الأزرق المعفّر بالغبار والمعطّر بالتعب ...قم أيها الممدّد مثل ذراع شحّاذ مستضعف , قليلا من الحياء يا متسوّل طلبات الرحمة والاستغفار …هيا قم وارتشف معي القهوة والصباح وبعض الوجع, أنت لست شاطرا إلاّ في الموت والتلصص على الأحياء منن تحت شاهدتك …” …ثم استدرك بقوله بعد نفس طويل من سيجارته الملغومة ” لكني لا أنكر أنك محظوظ , ولقد استطعت أن تنجو من ورطة الحياة بأعجوبة .”
هكذا حدّث صديقي الحفار الذي كتبته يوما على ضفاف مقبرة “الدحداح” الدمشقية وظننته مجرّد واحد من تلك الشخوص التي أودعتها بياض الورق في إحدى المسرحيات العابرة لذاكرة الخشب , لكني أجدها اليوم تنهض أعنف من كل الأطياف الواقفة عند بوابة المستحيل وهي تقرع أخطر الأجراس .
يصبح الموت في الأزمات مجرّد جواز سفر دبلوماسي, يحظى بالتقدير على الحدود التي لن تعود حدودا , يرحّب في وجه حامله ولا يدقّق في أمتعته …لكن , من يتذكّر منّا الآن أن الموت كان في النهارات التي يقاس بها الوقت بالوقت وتفتّح الورد وانتظار الغائب ….حدثا أكثر من جلل ويشبه تفطّر الأرض وانشقاق القمر ؟
صار الأموات أرخص من أوراق النعوات وأمسى القتل أسرع من دوران دواليب المطابع التي ترثي المحظوظين منهم بدموع من بقع الحبر الرصاصي المتخثّر فوق أسمائهم .
ما عسانا أن نقول اليوم لمعلّم المدرسة الذي أخبرنا صغارا بأنّ الرثاء غرض من “”أغراض” الشعر العربي المتعدّدة وأنّ الخنساء والمهلهل كانا من أشهر قوّاليه …؟! .أمّا الذي لم تستوعبه رأسي الصفيرة إلى الآن هو سر هذه اللعنة “”البسوس “..؟!..
كان الموت فيما مضى يعطي فرصة للصمت والوعظ والتأمّل عند المؤمن والعاصي والمتردّد والطلقاء والمؤلفة قلوبهم .. يمنح نوعا من “الترف الفكري ” لدى الوجوديين والشعراء وحتى المنتقمين والشامتين ,يلهم خطاطي الشواهد وبناة القبور وكتبة المرثيات …فأصبح اليوم يسابق الأجفان والرموش وحتى الشفاه التي تريد النطق باسمه .
ضاقت الصدور على الضحايا والمساكين فزاروا القبور مرّة واحدة وإلى الأبد .
لكني تذكّرت أنّ صديقي الحفّار قد وقف بفأسه حائرا متسائلا أمام حافة المقبرة يسأل نفسه عن جدوى بناء هذا السور الوهمي وهل هو جدير حقا بمنع التسرّب والتسلّل بين الضفتين ؟ وهل يوحّد الرخام والطلاء الأبيض فعلا سكّان هذه المملكة الرهيبة التي تبدو في ظاهرها صامتة آمنة ؟
الحقيقة أنّ الكثير من “سكانها ” مازال يحكم ويسوس من خلف شاهدته عن حق أو عن باطل .. وأنّ ثمة أمواتا كثيرين يجب أن يعيشوا كما هناك أمواتا كثيرين يجب أن يموتوا …واهم من يعتقد أنّ كل الراحلين قد رحلوا وأن كل الأحياء يمارسون الحياة .
مازلت احتاج إلى نفس عميق ,طويل ومعطّر من الشام وأنا أنظر من أعلى قاسيون إلى ذلك البيت الذي سكنته يوما في “الدحداح” وتعرفت فيه إلى صديقي الحفار ..