كتب

ما أشبه الليلة بالبارحة في’جوزيف كيسيل في سوريا’

ما أشبه الليلة بالبارحة في’جوزيف كيسيل في سوريا’…”من يفسر لماذا نقتل ومن يقتل؟ في الحقيقة، إذا كان من عذر لافتقاد المعلومة، فبوسعنا البحث عنها ضمن التعقيد المرعب الذي يسود سوريا”.. هذه الجملة المكثفة والمركزة جدا، قدر استشرافها البعيد المدى، انطوت عليها إحدى فقرات كتاب “جوزيف كيسيل في سوريا” الذي يعود يعود تاريخه إلى أواسط سنوات العشرينيات من القرن الماضي. هكذا افتتح الكاتب والمترجم المغربي سعيد بوخليط مقدمته للكتاب الذي ترجمه وصدر أخيرا عن دار ظلال وخطوط الأردنية. وذلك فيما يشبه القول السائد “ما أشبه الليلة بالبارحة”.

يضيف بوخليط إلى أن “المفارقة المدهشة رغم قدم المسافة بعقود طويلة، فبالتأكيد، عبارة لا زالت تنطبق حتى اليوم، ربما تمام الانطباق، بدون مبالغة على ما تعانيه سوريا: تبلور أعتى مستويات اللا ـ معقولية التي يعجز أي ذهن بشري عن تمثلها. إذن لم تعاني سوريا ما تكابده؟ لماذا يقتل الناس هناك؟ من القاتل؟ ثم أساسا وقبل كل شيئ ما دواعي ومبررات القتل؟ حتما، العبقري كيسيل استبق غفلتنا جميعا.

ويقول “كيسيل الكاتب الفرنسي المولود بالأرجنتين. هو الواحد المتعدد ثم المتعدد الذي وجد ضآلته في الواحد: الروائي طبعا، الرحالة، المغامر، الصحفي، الطيار الذي شارك إلى جانب السلاح الجوي خلال الحرب العالمية الثانية، ثم المتخصص في الريبورتاجات. أغنى التراث الإنساني بمنجز فكري هائل، قارب سبعين رواية، إضافة إلى دراسات مختلفة تهم مجالات إبداعية متعددة. مع كل ذلك لازال حتى الآن، فقط عنوان رئيسي أشار ويحيل باستمرار على كيسيل مقارنة مع باقي كتابته. ويتعلق الأمر بروايته “الأسد” 1958 التي تدور أحداثها في منتزه ملكي وتروي تفاصيل علاقة جد مدهشة تتجاوز حدود التصور، بين باتريسيا الفتاة الصغيرة ذات عشر السنوات وأسد، إذن كلما ذكر اسم كيسيل اتجه التفكير مباشرة نحو تلك الرواية.

ويلفت بوخليط إلى أنه بين ثنايا بيبليوغرافية زاخرة ومستفيضة، يندرج كتيب صغير، ربما لم يكن ليثير اهتمامي حقا، لولا انبجاس التراجيدية السورية. نص “في سوريا” الذي كتبه كيسيل سنة 1927، موثقا من خلال فصوله العشرة وقائع ماعاشه أثناء رحلته لسوريا. غير أنه عمل، تجاوز مستوى الانطباعات والارتسامات الشخصية، المنقادة وراء التقاط محايد لمتواليات رحلة عادية، مرتقيا حقيقة غاية التقييم الموضوعي الحاذق لجوانب من سياق المرحلة المعروفة تاريخيا بالانتداب الفرنسي على سورياولبنان (1946-1920)، وما انطوى عليه من منزلقات سياسية وجغرافية وثقافية وإثنية وعسكرية، استمرت وامتدت تراكماتها البنيوية حتى الزمن الراهن. بالتالي يعتبر ما يحدث اليوم في سوريا مجرد نتيجة طبيعية، من نواح كثيرة، لما أرسته صياغات المرحلة التي يؤرخ لها كتاب كيسيل هذا. فالباتأكيد. كما أقرت مختلف اجتهادات المؤرخين يصعب عموما استيعاب الحاضر دون إحاطة بالماضي. فالمآلات الجنائزية التي يسرع نحوها العالم العربي، سياسيا وثقافيا ومعه سوريا، تعود بأصولها إلى جرائم المنظومة الاستعمارية في حق عقل وجسد وروح وشعور وطموح شعوب المنطقة.

ويتابع “غير أن ما جسد بامتياز هذه المعادلة في التحقيق الصحفي ل “كيسيل” عن سوريا الذي يعود كما قلت إلى سنة 1926، وأضفى على خلاصاته سمة كهنوتية تخمينية جعلت فقرات عمله أقرب إلى إشراقات العرافين والمتنبئين، كونه استحضر منذئذ رؤى ألغت تقريبا كل هذه المسافة الزمانية الممتدة إلى تسعة عقود، وبدا الراهن كالأمس تماما. المشهد العام نفسه، ثابت لم يتبدل، فقط تغيرت التفاصيل الصغيرة. تفسير هذه المسألة في غاية البساطة؛ مبدع بحجم كيسيل، يمتلك ما يكفي من الذكاء والعمق والموسوعية والبصيرة والخبرة الحياتية والحس الإنساني، لا يمكنه حتما سوى أن يكون صاحب حدس مبشر ونذير”.

ويرى بوخليط أنه في اللقاءات والبورتريهات التي رصدها كيسيل بدقة محترف الكتابة سنقف على وجهات نظر، ونتابع بعضا من يوميات شخصية عسكرية ومدنية، تصنع الحدث في المنطقة؛ الأمير عبد المجيد القس، القائد كولي الصغير، بوشيد، لابان، القائد مولير، مزود، دحّام، الدروز، الشركس. مثلما أننا سنكتشف منذئذ، الأمكنة التي ندمن حاليا فواجعها كل حين، حد الهستيريا: دمشق، درعة، السويداء، حلب، دير الزور، تدمر. إن سوريا جغرافية في غاية الجمال والَثراء والعطاء، منبع الحضارات. لكن أيضا بنية طائفيه وإثنية معقدة، تعكر صفوها زيادة، واستفحل أمرها بسبب مساوئ إدارة الانتداب الفرنسي وتبعاته، فأضحت جحيما للنعرات عوض أن تكون تحت رحمة للاختلاف، جعلها لبنة للحرب الدموية التي تدور رحاها اليوم.

. يقول كيسيل”سوريا، مهد الحضارات ومكان العبورالمختار منذ الأزل، أثَّر ثراؤها وجمالها، دون تدخل، في كثير من الشعوب. هذه الأرض؛ حيث تنمو بقوة ملتهبة، الاعتقاداتالأولى، وكذا الهرطقة التي تضلل وتخلط. أعترف بتواضع، أني لم أستوعب خلال أولى أيام إقامتي في بيروت شيئا بخصوص ما يتداول أمامي من أحاديث مصدرها العلويون والهاشميون، الموارنة، السنة، الشيعة، اليونان الأرثوذوكسيون، الطائفة السورية  الفلسطينية، قطاع الطرق، المتمردون وكذا دروز الجبل ودروز حوران، اللبنانيون والسوريون والدمشقيون… إلخ، فكيف يعترف بعضهم ببعض؟ سوريا تضم سبعا وعشرين ديانة، تمثل كل واحدة منها قومية، ويلتمس هذا السديم التأثيرات الأكثر تنوعا، روحيا وماديا. مع ذلك بعد انقضاء أيام قليلة، بدأت أتمكن من قراءة كتاب الطلاسم هذا الذي يبدو مستعصيا على الفهم. تتبدى الخطوط الكبرى. بلا شك بالتبسيط لا يمكن أن نعرض كل المشهد، لكنه الوسيلة الوحيدة لكي أفهم وأعبر عن ما فهمت؟”.

ورحل كيسيل نحو سوريا، مفتقدا لأي مرشد نظري أو مرجعية قبلية قد ترسم له خريطة طريق، يقول “سوريا؟ ماذا نعرف عنها؟ لنعترف بالأمر، دون كبرياء مزيف؛ فقط بعض الوقائع التاريخية المبهمة، حول الحروب الصليبية، ثم بعض الصفحات الشهيرة، والأسماء الجميلة لدمشق وتدمر والفرات. ذاك، كل زادي بالنسبة لبلد كبير وخصب، يعيش تحت الانتداب الفرنسي، لكن من يبين أهمية هذا الانتداب؟ ثم بوسعه أن يرسم  اللهم إلا مختصين قليلين  المظهر السياسي لهذا البلد؟ من يفسر لماذا نقتل ومن يقتل؟ في الحقيقة، إذا كان من عذر لافتقاد المعلومة، فبوسعنا البحث عنها ضمن التعقيد المرعب الذي يسود سوريا”.

ويرى بوخليط أن كيسيل عندما عاين وخبرولامس على أرض الواقع، صحبة الجنود حيثيات المعارك وجوهر الصراعات السياسية، تحول بعمله هذا من مستوى الريبورتاج التسجيلي العادي، وكذا الرحلة العابرة، إلى التقييم النقدي لنظام الانتداب، وتحميله في الأخير ساسة فرنسا مسؤولية الأخطاء المرتكبة التي كرسها الزمان وتماهي معها المكان.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى