
تعود الحكاية إلى عام 2010، لا أصدق أن الزمن مرَّ سريعاً على هذا النحو، وكنتُ قد استقلتُ من تلفزيون الدنيا أواخر عام 2009 بعد خلافات واسعة مع أصحابها طالت طاقم العمل المؤسس كله، وإثر استقالتي أجرى معي أحد الصحفيين حوارا تحدثتُ فيه طويلاً عن مشكلة الإعلام الخاص، وسطوة صاحب المال، وخاصة أننا كمجموعة عمل نجحت في تأسيس تلفزيون الدنيا على نحو مهني، وجدت نفسها بعد ثلاث سنوات أمام مشكلة جوهرها أن أصحابه، الذين انحصروا أخيراً برجل الأعمال محمد حمشو، لايريدون الهوية المستقلة التي انطلقت بها المحطة .
ولم يمض وقت طويل حتى وجدنا أنفسنا مرة ثانية أمام طلبٍ بتأسيس مشروع جديد هو المحطة الإخبارية السورية، وكان الكاتب الدرامي الدكتور فؤاد شربجي المايسترو الذي قاد العمل في المشروعين، وانتقى الكوادر المهنية فنجح بشكل لافت، وفي التجربتين كان شرطه على الممولين والمسؤولين إطلاق إعلام تلفزيوني يعبر عن المجتمع لا عن الحكومة ، وهذا ما أزعج المسؤولين والممولين معاً عندما اكتشفوا مخاطر هذه الهوية التي أرادها فحاصرونا حتى أبعدونا وأعادوا كلاً من الإخبارية وتلفزيون الدنيا إلى نمطية الإعلام الرسمي المطبل للسلطة مع هامش بسيط للنقد يجاور هامش الإعلام الرسمي.
في المشروع الثاني أي (الإخبارية) كان الدكتور فؤاد واضحاً، ولم يتردد في السعى من أجل سياسة إعلامية مستقلة عن الإعلام الرسمي حتى بالتعاطي المالي، وكان مشروعه أن تمول المحطة من دافع الضرائب السوري لا من موازنة الإعلام، وبالفعل قدمت موازنة خاصة بها ، وكانت لاتتلقى تعليمات إعلامية ولا ترتبط بالمحطات الأخرى إعلامياً، أي أن الإخبارية في انطلاقاتها كسرت تقاليد كثيرة في الإعلام الوطني السوري أهمها أنها فتحت منبرا للاختلاف السياسي ولذلك تعاطت معها القوى المشاركة في ثورة 2011 بثقة وحضرت كاميراتها في مواقع الحدث من درعا إلى مختلف الأمكنة والمنابر، أي أن الإخبارية كانت إشكالية في تأسيسها وهويتها وكوادرها .
عند انطلاقتها مع عشية ثورة 2011 في منطقة (دروشا) القريبة من دمشق اشتغلتْ على هذا المنطق أي منطق الاستقلالية، ولم يكن ذلك يرضي السلطات الوصائية والأمنية، ولذلك ترك الدكتور فؤاد الإخبارية وبدأ تاريخ آخر للإخبارية، فدُمر موقعها في دروشا ونُقلت إلى مقر جديد متاخم لمشفى الأسد الجامعي، وأضحت جزءا من الإعلام الرسمي، وأسقطت أي محاولات للتجديد قام بها بعض الكوادر.
منذ ذلك الوقت ابتعدتُ عن هذه المحطة، وكنت ألتقي بعض أصدقائي فيها مصادفة أو من دون أي تخطيط، وفي آذار 2025 دخلت إليها، وقد سقط نظام بشار الأسد، وبدأ عهد جديد، وكان دخولي إليها كمحلل سياسي في سياق برامجها التي تعدها للإقلاع الجديد.
كان اللقاء مع الكادر الذي يدير المحطة، والذي لا أعرف أحدا منه، لافتاً، يحمل في طياته توقعات كثيرة، فقد طلبتُ إرسال سيارة لي، فاعتذروا عن وجود سيارة في المحطة ، لكنهم دفعوا أجرة التكسي التي جئت فيها، ورحب بي (بروديوسر) البرنامج على باب كلية الطب، واصطحبني إلى داخل الأستوديو الذي كان يتابع برامجه بترحيب واحترام.
جرى حوار حول المستجدات السياسية في المنطقة وعلى رأسها سورية، وكان الحوار الذي استغرق قرابة الساعة عميقاً ، وكل شيء فيه مثير للانتباه، أسئلته وضيوفه وتقاريره، وعندما انتهى خرجت من الأستوديو وجرت مناقشة قصيرة مع طاقم العمل حول البرنامج السياسي وخاصة الحواري، فقد احتج أحدهم على عبارات استخدمتها أنا ولم يوافق عليها، وكان الزملاء مشحونين بالروح الثورية، ولا يلتفتون إلى فكرتي حول مهنية الحوار واستقلالية الضيف.
قلت لهم إن أهم خطوة يجب أن ينطلق منها الإعلام الجديد هو الإنصات إلى وجهات النظر الأخرى، وعدم الاتكاء على وجهة النظر الأحادية، وذلك لكي يبني على مصداقية افتقدها الإعلام الرسمي خلال الحرب على السوريين، ولأن الحوار كان سريعاً، انتهت زيارتي إلى الإخبارية، وخرجت وأنا أتمنى أن يبدأ إعلام جديد مهني في أدائه.
أنتظر اليوم انطلاق الإخبارية السورية بعد سقوط النظام بفارغ الصبر، وانطلاقتها هي اختبار أولي للإعلام السوري الجديد، إذا جازت التسمية، فالزملاء الذي تولوا مقاليد الأمور فيها شباب مجتهدون وطموحون، وهم أمام اختبار جدي، فهل سيكون الإعلام قادرا على منافسة صخب الإعلام المتعدد من حولنا، أم سيعيد تجربة الإعلام السابق؟!
سؤال هام في وقته ومعناه ؟ وخاصة أن السوريين يعيشون من دون إعلام رسمي متلفز منذ الثامن من كانون الأول 2024 يوم سقط نظام بشار الأسد وسقط إعلامه معه ، ولم تظهر إلى الآن أي محطة تلفزيونية داخل سورية تحمل هوية الثورة السورية المنتصرة بشكل رسمي.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة