نوافذ

ما الغاية؟!

اليمامة كوسى

سألتني صديقة منذ مدّة سؤالاً بنغمةٍ رقيقة تشبه اسمها وأعتقد بأنّه حان الوقت للإجابة عنه بعد تأجيلٍ طويل، ذلك السؤال لا بدّ وأن يطيبَ في نفس كلّ مَن يمسكُ قلماً قاصداً إعتاقَ أصابعهِ من قيودها، وهو بكلمتين: ما الغاية؟!

عندما فكّرت بما يدفعني للكتابة وجدت بأنني لا أكتب لسبب واحد فحسب بل هناك الكثير من الأسباب التي تدفعني لذلك، ليس من ضمنها بالتأكيد أن أصبح كاتبة، فأنا أؤمن بأنّ الألقاب في كلّ مجالات الحياة لا تُمنَح على الطرقات وإنما في لحظة الوصول للوجهة، وهذه اللحظة يمكن لها أن تتأخّر، أو أن تتأخّر كثيراً، بل ويمكن لها ألّا تأتي إطلاقاً.

هذا الأمر برأيي يجب أن يفهمهُ عابرُ الطريق منذ البداية لكيلا يؤرّق نفسهُ بأفكار سرابيّة لا جدوى منها، وأمّا عن مجال الكتابة بالذات فأنا أؤمن بأنّ تلك القاعدة عليها أن تكون مكرّسة في ذهن كلّ مَن ينوي أن يكتب أضعافاً مضاعفة، فقد يكون ذلك السّراب قاتلاً وليس مخادعاً وحسب!

وكما تقول الروائيّة الأمريكيّة داني شابيرو: “إن كنّا سنفكّر في عملنا على أنّه تذكرة لحياة من التألّق الأدبيّ؛ فربما من الأفضل لنا أن نبحث عن عمل آخر”.

إذاً أن أكتب لأصبح كاتبة أو بقصد الشهرة هي غايات ساذجة لا أعتقد بأنها ستخطر في بالي في أي وقت أُسأَل فيه سؤالاً كهذا.

غاياتي من وراء الكتابة تختلف من مرّة لأخرى، فأحياناً أكتب لرغبتي في تجميد لحظة، مساعدة شخص، إيصال رسالة أو منح شعور، لكن ما أريد أن أركّز عليه هو سبب آخر هام أجد بأنه يمكن أن يشارك الأسباب الأخرى في الكثير من الأحيان، ويمكن أن يكون لوحده، ألا وهو “التّفريغ”.

عندما أرى أفكاري على الورق أشعر بأنّ حواسي قادرة على استيعابها بشكل أفضل، ولأنّ التحكّم يبدأ من الاستيعاب أجد بأنّ الكتابة وسيلة ممتازة للتحكّم بالنفس والتعامل مع  انحدارات المنحنى البيانيّ لحياة المرء بطريقة لا بأس بها. فبالكتابة أستطيع رؤية الأفكار الثقيلة التي تدور في رأسي على شكل أحرف وكلمات، أتحسّس أشواكها، أتذوّق مرارتها، أستمع لهمسها أو ربما لصراخها، والأهم من كلّ ذلك أنني أتنبّه لكونها ستحترق في رأسي أم لا قبل أن يحدث ذلك. وهذا ما يمنحني فرصة لتجنّب حرائق كبيرة قبل اندلاعها. تبدو الكتابة إذاً وسيلة إنقاذ جيّدة، أليس كذلك؟!

المشكلة في هذه الغاية هي أنّ القطعة الأدبيّة التي تنتج عنها قد تكون – كحال مصدرها – معقّدة أو متشابكة أو غير مفهومة بشكل كافٍ. فأنا عندما أكتب بدافع التفريغ لا أولي كلماتي الاهتمام المعهود، بل أترك نفسي أكتب كيفما اتفق مع استسهالي لصيغة المخاطب في الاستخدام لهكذا أغراض.

تكون الكلمات أشبه بشرارات كهربائية لا تتولّد لتكوّن تيّاراً كهرائيّاً؛ وإنما لتنفرغ وحسب. ولهذا يمكن أن تبدو خالية من الرّوح الكتابيّة المعهودة.

ومن هنا لا يمكنني تفادي الحديث عن مفهوم الشغف الكتابيّ الذي تتعدّى القطع الأدبية المكتوبة انطلاقاً منه ما عبّرتُ عنه بالانفراغ الكهربائي إلى ما يمكنني وصفه بالفيضان المائي، يمكنني تشبيه الأمر بكأس تفيض منها المياه، لا لأنّها تريد ذلك، بل لأنّهُ لا بدّ من ذلك!

عندما أكتب بشغف فأنا أشعر بشعور الفيضان ذاك، كلّ ما أكتبهُ والكأس لم تفض بعد لا أعتبرهُ الكتابة التي أريدها حقّاً. وعليه يمكنني القول بأنني أكتب عندما تفيض مشاعري فرحاً أو حزناً أو خيبةً أو يأساً أو حبّاً أو شوقاً أو أي شعور آخر.

وبالعودة إلى غايات الكتابة أجد بأنّه من الرائع أن تكون كتاباتنا هي ملجؤنا الدافئ الذي نلوذُ إليه عندما نحتاجه، ففي عالمٍ مليء بالفوضى قد يضيّع المرء نفسه ولا يجد مَن يدلّهُ إلى مكانها. لكن عندما يكون قد بنى ملجأً يخصّهُ وحده لا يمكن لقدميه أن تضلّا طريقهما إليه مهما كانت شدّة التّيه.

وجدت مؤخراً بأنني أحب أن أستمع لما همست إليّ به اليمامة في وقت من الأوقات. ليس بالضرورة أن تعطيني الشعور ذاته. قد تعطيني شعوراً مغايراً تماماً لكنها لا بد وأن تحرّك فيّ شيئاً ما.

لم أكن سابقاً أعود لقراءة ما كتبته لكنني منذ مدة قصيرة فعلت ذلك وفكّرت بعدها: لمَ لا يعود ذلك الإنسان صاحب التمثيل البياني المتعرّج لقراءة بعض النقاط ذات الإحداثيّات التي قد لا تشبه إحداثياته الآن لكنها كانت تمثّله في لحظة ما؟! لمَ لا يعود إليها ليأخذ منها عبرة، قوّة، سبيل مقارنة، أو ليستحضر ذكرى أو شعور أو فترة ما؟!

كختام لكل تلك الافكار التي – للحقيقة- لا أستطيع تحديد إن كانت قد انفرغت أم فاضت لكن ما أعلمهُ هو أنها واثقة بنفسها وبقدرتها على أن تكون مفهومة في عقل أحدهم. سأقول بأنّ كلماتنا هي مرايانا، ومَن يكتب وهو يحدّق بعيداً عن مرآته لا يمكن أن يحمي نفسه من صفة “الزّيف” ويستحيل أن يكون مفهوماً بعد ألف عام بنفس درجة مَن يكتب وعيناه تحدّقان في مرآته بجرأة.

وبينما قد تُغطّى مرايانا بالضباب أو بالغبار أو قد تتخلّلها بعض الانكسارات من حين لآخر، أجد بأنّ ذلك لا يمكن أن يشوّه انعكاس أرواحنا من خلالها طالما أنّ مَن في الداخل هو نحن، نحن بكلّ تغيّراتنا البشريّة التي لا يمكنها أن تتفوّق على القوّة الطبيعيّة للانعكاس، مهما حاولت ذلك.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى