تتباين التقييمات لـ«مسار أستانا» بعد إعلان كازاخستان نهايته على أراضيها، علماً أنه انطلق أساساً بعد معركة تحرير حلب، في نهاية عام 2016 وبداية عام 2017، بهدف جمع الأطراف السورية المتصارعة. ومذّاك، عُقد عدد كبير من الاجتماعات، التي ضمّت إلى جانب الحكومة السورية والفصائل المعارِضة، الدول «الضامنة» للمسار (روسيا وإيران وتركيا)، ونتج منها عدد كبير من مناطق خفض التصعيد والمصالحات والهدوء النسبي، بما أتاح للدولة السورية التقاط أنفاسها بعد سنوات قاسية من الحرب المفتوحة. لكن الوجه الآخر للمسألة – وربّما الأهمّ -، أن تركيبة الدول الضامنة اختزنت خللاً فاضحاً، وهو أنها ضمّت تركيا، على رغم كون الأخيرة طرفاً فاعلاً في الصراع الدموي المفتوح مع دمشق. أدركت روسيا وإيران ذلك الخلل – لا محالة -، لكنّهما عملتا على اتّباع سياسة «الترويض» التدريجي لـ«الذئب الهائج». ولعلّ بعض النجاح تَحقّق في هذا المضمار، وإنْ كان جزئيّاً ومحدوداً جدّاً؛ فكانت بيانات «أستانا» الثلاثية تُكرّر، في كلّ مرّة، لازمة «وحدة الأراضي السورية وسلامتها» و«سيادة الدولة عليها» و«مكافحة الجماعات الإرهابية والانفصالية». وفي كلّ بيان، كان دعاة المسار يَرون فيه نجاحاً يُلزم تركيا بدعم المبادئ المذكورة، غير أنه هو نفسه فتح، توازياً، على «أوتوسترادات» من التدخُّل العسكري التركي، بدأت عشيّة انطلاقه ولا تزال مستمرّة.
بعد محاولة الانقلاب على الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في 15 تموز 2016، ومن ثمّ لقائه نظيرَه الروسي فلاديمير بوتين، في سانت بطرسبورغ، في 9 آب، بدأت أولى عمليات الاحتلال التركي مع عملية «درع الفرات»، في 24 آب، في ذكرى معركة مرج دابق عام 1516، والتي شرّعت أبواب بلاد الشام ومصر أمام جحافل القوات العثمانية. وتوازياً مع العملية التي أسفرت عن احتلال مثلّث جرابلس – إعزاز – الباب، كان الحديث التركي يتصاعد عن منطقة «الميثاق الملّي» التي ضمّت، وفقاً لبرلمان عام 1920، كامل المنطقة الشمالية من سوريا ومن العراق. انطلق «مسار أستانا»، ومعه بشكل متوازٍ – بل سبقه كما أسلفنا – مسار القضم التدريجي للأراضي السورية من قِبَل الجيش التركي. ولم يَعُد اتّكال أنقرة مقتصراً على الجماعات المسلّحة أو «الجيش السوري الحر»، والذي كان يوصف بـ«الجيش الموازي» للجيش التركي، بل بادر هذا الأخير بنفسه إلى تنفيذ عمليتَي «غصن الزيتون» مطلع عام 2019 (أسفرت عن احتلال منطقة عفرين)، و«نبع السلام» في تشرين الأول 2019 (سيطر بموجبها على المنطقة الواقعة بين تل أبيض ورأس العين في شرق الفرات وبعمق متفاوت يصل أحياناً إلى 15 كيلومتراً، علماً أن تركيا كانت تسعى وراء عمق يصل إلى 30 كيلومتراً). والمفارقة، هي أن العمليات العسكرية الثلاث الكبرى، لم تواجَه بأيّ اعتراض من جانب موسكو، بل إن الروس مهّدوا لعملية عفرين بالانسحاب من المواقع التي كانوا متمركزين فيها، فيما كانوا طرفاً مباشراً في «اتفاق سوتشي» مع تركيا، والتي عنت بشكل أو بآخر الموافقة على عملية «نبع السلام». في العمليات الثلاث تلك، كان الهدف التركي المعلَن هو تنظيف المناطق المُشار إليه من عناصر «وحدات حماية الشعب» الكردية، ومنْع الأكراد من تشكيل ممرّ كردي يصل شرق الفرات بغربه، وصولاً إلى البحر المتوسط. ومن جهتها، ترى روسيا في العمليات العسكرية التركية إضعافاً للوجود الأميركي في شمال سوريا، على اعتبار أن القوات الكردية تحظى بدعم كامل من الأميركيين.
غير أن مسار تلك العمليات اعترته في الواقع شائبتان: الأولى، أن الذريعة الكردية للتدخّل التركي كانت واهية، لأن الأكراد لم يشكّلوا أيّ تهديد حقيقي لتركيا، وإذا كان لهم أن يتحرّكوا في الداخل السوري فهذا في النهاية شأن داخلي سوري؛ والثاني، أن الاحتلال التركي كان مواكَباً بعمليات تغيير على قاعدة «الفرز والضمّ» العقارية. إذ شهدت هذه العمليات أوسع ترويج لقاعدة أن الشمال السوري كان تابعاً للحدود الجديدة لتركيا، والتي رسمها البرلمان التركي عام 1920، وعُرفت بحدود «الميثاق الملّي». وعلى ذلك الأساس، انطلقت أوسع موجة تغيير ديموغرافية ودينية ومذهبية واقتصادية وعقارية وتعليمية وجامعية وبريدية وتجارية، وكلّ ما يمكن أن يخطر على البال.
حتى مسألة إعادة جزء من اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا، لم تكن لتتمّ إلّا بهدف تغيير بنية المناطق المحتلّة من جانب أنقرة، بحيث أُعيد، حتى الآن، نصف مليون لاجئ، بعدما بنت لهم تركيا بيوتاً من الطوب ضمن مجمّعات سكنية. وهؤلاء كانوا منتقين من عرق معيّن ومذهب معيّن، وأُسكنوا في مناطق لا ينتمون إليها أصلاً، فيما تخطّط أنقرة أيضاً لإعادة مليون لاجئ معتمدةً المنهاج عينه، وبالتعاون مع الدوحة التي تقوم أصلاً بتمويل كلفة هذه البيوت.
هكذا، استمرّ «أستانا» في إصدار البيانات «المشدِّدة» على «وحدة سوريا وسلامة أراضيها»، في موازاة مواصلة تركيا حملة «الميثاق الملّي». على أن إعلان «وفاة» المقرّ السابق لهذا المسار، لا يعني موته، بل، وكما ذكر الروس، فإن ما جرى لا يعدو كونه انتقالاً إلى مرحلة جديدة في عاصمة أو مدينة أخرى. ويمكن النظر إلى المرحلة الثانية على أنها محاولة لفتح مسارات جديدة تشارك فيها قوى إضافية، عربية على الأغلب، على أمل ألّا يكون الكلام مكرّراً، وهو الإصرار على «وحدة سوريا وسلامة أراضيها»، فيما الفعل يظلّ مناقضاً للقول. على ما كان مؤمّلاً من لقاء «أستانا» الأخير لم يحصل. إذ إن ما سبقه حمل مؤشّرات إلى انسداد محتمَل في ما يتّصل بأولوية الحلّ بين سوريا وتركيا؛ ففيما كانت الوفود تذهب إلى أستانا، كان الجيشان التركي والسوري يحشدان في مناطق تل رفعت ومنبج. أكثر من ذلك، تكثّفت عمليات استهداف القوات التركية واستخباراتها للمقاتلين الأكراد عبر ما يسمّى عمليات «النقطة» الموضعية، بعد فوز إردوغان بالرئاسة، وتعيين مسؤولين جدد في مواقع وزارية وحسّاسة. وكان لافتاً أن تركيا تجاوزت، في عملياتها الأخيرة، استهداف عناصر عسكرية وأمنية كردية إلى تدمير سيارة مدنية بين مدينتَي القامشلي والمالكية قبل ثلاثة أيام، كانت تقلّ الرئيسَين الموازيَين لـ«كانتون» القامشلي في «الإدارة الذاتية» يسرا محمد درويش (مواليد 1972)، وكابي شمعون، ونائبتهما ليمان أوسي شويش (مواليد 1968)، وسائقهم فرات توما، والذي قُتلوا جميعاً باستثناء شمعون المصاب بجروح خطيرة، فضلاً عن استهداف مسؤول عسكري كردي في تل رفعت من جانب مسيّرة تركية. وقد اتّهمت «حركة المجتمع الديموقراطي» الكردي، روسيا، بـ«التنسيق» مع تركيا في هجوم المسيّرة، معتبرةً أن ما جرى يبعث بـ«رسالة روسية واضحة بإضعاف الإدارة الذاتية» في «روجافا»، وعادّةً ذلك «لعبة خطيرة».
كذلك، صدرت بيانات عن تنظيمات ومؤسّسات مختلفة في شرق الفرات وفي تركيا، تندّد بعملية المسيّرة التركية في القامشلي. وبرز، في هذا الإطار، بيان «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي، والذي ندّد بالهجوم، وطالب بوقف مثل هذه العمليات.
يَطرح بيان أستانا المنتقد للأكراد وهجوم القامشلي، علامات استفهام كثيرة حول طبيعة المرحلة المقبلة من الصراع التركي مع الأكراد. وفي هذا المجال، يعرب فهيم طاشتكين، في صحيفة «غازيتيه دوار»، عن خشيته من أن تكون تصفية الأكراد في شرق الفرات عنوان تحرّك أنقرة المقبل، لافتاً إلى أن أكثر من 45 كردياً قتلوا في هجمات تركية منذ 12 حزيران الجاري. كذلك، فإن استهداف الأكراد مع بقاء المسلّحين في غرب الفرات وإدلب بعشرات الآلاف، وبرعاية تركيا، يَطرح تساؤلات إضافية حول طبيعة «الحوار» المقبل بين أنقرة ودمشق، وما إذا كان الطرفان مقبلَين على مرحلة نارية أم أنها مجرّد مناورات بالنار تمهيداً لاتّخاذ قرارات جريئة بالمصالحة بينهما. ذلك أن مَن كانوا يمسكون بالملفّات الأساسية في تركيا سياسيّاً وعسكريّاً وأمنيّاً وخارجيّاً، لا يزالون أنفسهم ولم يتغيّر شيء. فرئيس الاستخبارات، حاقان فيدان، أصبح وزيراً للخارجية، بعدما كان هو نفسه يقوم ببعض مهامّها؛ وإبراهيم قالين، مستشار الأمن والسياسة الخارجية، أضحى رئيساً للاستخبارات؛ ورئيس الأركان، ياشار غولر بات وزيراً للدفاع. لكن الأهمّ أن خيوط الجميع تمسك بها يدٌ واحدة، هي يد إردوغان. فعن أيّ تغيير في السياسات العسكرية والأمنية والخارجية يمكن الحديث، خصوصاً وأن جرعة الانتفاخ لدى الرئيس التركي قد زادت بعد الفوز بالرئاسة وتشظّي المعارضة والاطمئنان إلى خمس سنوات جديدة في السلطة، وفي تنفيذ الخطط الخاصة بـ«القرن التركي» بكلّ مندرجاته؟