ما بعد إعلان بكين الثلاثي… الأسئلة الخمسة الكبرى
انقشع هول المفاجأة وتبدّدت سحابة ردود الأفعال، لكن فيض الأسئلة والتساؤلات بشأن إعلان بكين الثلاثي، لم ينقطع، فما حدث ليس بالأمر الاعتيادي حتى في منطقة لطالما كانت حبلى بالمفاجآت، وهو عامل تغيير لقواعد اللعبة، وديناميات القوى وعلاقاتها في الإقليم برمته.
لعلنا، في هذه المقالة، سنتوقف أمام 5 أسئلة منها، هي الأكثر حضوراً على ألسنة المراقبين والمحللين والسياسيين:
الأول: هل نحن أمام اتفاق مُستدام، يطوي صفحة بين طهران والرياض ويفتح أخرى، أم أننا أمام خطوة سعودية “تكتيكية”، لتعزيز أوراق مساومتها مع واشنطن، وربما بهدف “تقطيع الوقت” إلى حين رحيل إدارة بايدن “المزعجة” لولي عهد المملكة؟ هل ثمة في إيران، إجماع على أهمية السير في هذا الطريق، أم أن التقارير، التي تحدثت عن تباين بين النخب السياسية والأمنية والعسكرية الإيرانية بشأن النظر إلى العلاقة بالرياض، تنطوي على قدر من الصحة؟
في ظني، وليس سوى بعض الظن إثم، أن قرار الرياض تنويع علاقاتها وتحالفاتها الدولية والإقليمية، ليس تكتيكياً، بل توجه استراتيجي جديد، بدأت ملامحه تتضح منذ بضعة أعوام، وهو غير مرتبط بهوية ساكن البيت الأبيض، وإن كان يتأثر بها من دون شك. التعاون مع روسيا (أوبك +) والانفتاح على الصين بدآ قبل مجيء إدارة بايدن، وسيستمرّان بعد رحيلها. ربما تتباين الوتائر والسرعات ومجالات التعاون، بيد أنه توجُّه استراتيجي، تتشاطره مع المملكة مجموعة من دول الخليج والمنطقة كذلك.
أمّا العلاقة المتجددة بإيران فناجمة عن وصول المملكة، ودول إقليمية أخرى، إلى استنتاج مفاده أن عشرية حروب الوكالة، لم ولن تنتهي بغالب ومغلوب، وأن تكلفة الاستمرار في لعبة “الخيار الصفري” أعلى كثيراً من التزام معادلة “رابح – رابح”، وأن أولويات المنطقة ودولها تتغير وتتبدل لمصلحة مشاريع التنمية وتنويع الموارد والاستعداد لمرحلة “ما بعد الهيدروكربون” التي تقترب سريعاً. أولويات السياسة الداخلية باتت تؤدي دوراً متعاظماً في تقرير أجندات السياسة الخارجية، و”المغامرات”، عسكريةً كانت أو سياسية، سوف لا تنتهي إلى استنزاف ما هو متوافر من موارد، بل تهدد بابتلاع ما سيأتي منها.
والمملكة، بعد أعوام حربها الثمانية ضدّ اليمن، خلصت (متأخرة) إلى النتيجة التي باح بها ذات يوم، الرئيس المصري المخلوع، محمد حسني مبارك: “المتغطي بأميركا عريان”، فهي لمست، لمس اليد، تقاعس واشنطن في الدفاع عن درّة تاجها: أرامكو، وسحبت “الباتريوت” من أرضها. والأهم من كل هذا وذاك وتلك، أن الرياض باتت تدرك الحدود المتواضعة جداً، لما يمكن لـ”تل أبيب” أن تقدمه في مجالي الأمن والدفاع، تعويضاً من “الانكفاء الأميركي”.
أمّا عند الضفة الأخرى للخليج، إيران، فليس ثمة شك في أن التغطيات التي رافقت إعلان بكين، في صحف متعددة، محسوبة على تيارات ومواقع إيرانية متعددة، أظهرت قدراً من التباين، رأى البعض أنه يمثّل تهديداً للتقارب، لكن تجربة الأعوام الأربعين الفائتة أظهرت، على نحو لا يدع مجالاً للشك كذلك، أن توجهاً في السياسة الخارجية، يرعاه المحافظون و”الثوريون”، يصعب على “الإصلاحيين” نقضه، بل ربما نجازف في القول إن انقسامات الداخل الإيراني تكاد تتركز حول الشؤون الداخلية، أمّا السياسة الخارجية، فتتمتع بقدر أعلى من الاستقرار والثبات، أَمْلى على معارضي اتفاق فيينا النووي من المحافظين، احترام التزامات بلادهم بشأن مندرجاته، حتى بعد أن آلت السلطة إليهم.
هنا نخلص إلى ترجيح التزام إيران الاتفاق وآجاله الزمنية، حتى مع استمرار الجدل الداخلي، بشأن بعض أوجهه وتفاصيله.
ثم إن إيران أدركت، بدورها، خطورة التقارب الأخير الناشئ بين أوروبا والولايات المتحدة بشأنها، وارتفاع وتائر التلويح بالخيار العسكري، وهي تراقب، من دون ريب، تكثيف التدريبات والمناورات المشتركة بين واشنطن و”تل أبيب”، والمصمَّمة من أجل استهداف مواقعها النووية والصاروخية. وهي لذلك كثّفت مساعيها الانفتاحية على دول الجوار، القريب والبعيد، وقدّمت إلى المنظمة الدولية للطاقة النووية ما يكفي لسحب ذرائع العدوان، وهي ما انفكت، ليل نهار، تبدي استعدادها لوصل ما انقطع في فيينا.
هنا، تأتي الوساطة الصينية لتعزيز هذا التوجه الاستباقي، والمصالحة مع السعودية، والتي حظيت بترحيب إقليمي – أوروبي – أممي نادر، ربما تكون خطوة نوعية على هذا الطريق، تملي على طهران إيصالها إلى خواتيمها السارة.
وما دام استئناف العلاقات وتفكيك عُقد الأزمات الثنائية والإقليمية، فيهما مصلحة مشتركة للطرفين، وما دامت الصين ألقت بثقلها كضامن (مواكب) لتنفيذ الاتفاق، فإن من غير المحتمل أن تصدُق نبوءات المتشائمين والمتضررين والمنزعجين من التقارب الإيراني – السعودي، والأرجح أن الاتفاق وُجِدَ ليبقى.
الثاني: هل ينهي الاتفاق الخلافات المتراكمة والمتراكبة بين الجانبين؟
بالقطع لا، فبين الدولتين الجارتين الكبريين، فالق جيوبوليتيكي – قومي – مذهبي، نشأ وتوسع على مدى عشريات أربع من السنين، وهيهات أن يجري ردمه في اجتماع واحد (حتى إن جاء ماراثونياً كما في بكين) أو حتى في سلسلة من اللقاءات اللاحقة.
فجوة انعدام الثقة، واتساع شقة الخلافات، ومصلحة أطراف متعددة في عرقلة الاتفاق وترجمته، جميعها عوامل تدفعنا إلى الاعتقاد أن استعادة العلاقات السعودية – الإيرانية هي عملية “Process”، وليست قراراً، وأن مقدماتها تحتاج إلى سلسلة من إجراءات بناء الثقة، وأن البدء بالملفات الأسهل والأكثر إلحاحية، ربما يمهد من أجل خطوات أبعد وأعمق مستقبلاً، وأن الحكم على مآلات هذه المسيرة سيكون بالأفعال وليس بالأقوال.
قيمة الاتفاق أنه أسس وَضْعَ خلافات البلدين على مائدة الحوار والدبلوماسية، بدلاً من حروب الوكالة وأدواتها الخشنة.
الثالث: كيف سينعكس الاتفاق على ملفات المنطقة وأزماتها المفتوحة؟
لا شك في أن مناخات الانفراج بين القطبين الإقليميين ستُلقي ظلالاً إيجابية مريحة على دول الأزمات المفتوحة، من اليمن حتى لبنان، مروراً بالعراق وسوريا، بيد أن تداعياته لن تكون فورية وتلقائية.
ثمة كثير من الوقت والجهد اللذين يتعين صرفهما لضمان وصول هذه البلدان إلى شواطئ الأمان، وثمة لاعبون آخرون، من خارج الاتفاق الثلاثي، يتمتعون بتأثير ونفوذ كبيرين في بعض هذه الساحات، منهم من هو مؤيد للتقارب السعودي الإيراني، ومنهم من هو متضرر وكاره لأي استقرار إقليمي (“إسرائيل”، بصورة خاصة)، ومنهم من يستشعر خطراً على دوره ونفوذه اللذين تناميا على جذع الانقسام الإقليمي، وهنا نتحدث عن دول وحركات “لا – دولاتية” كذلك.
المرجَّح بقوة أن يكون اليمن أول المستفيدين من أجواء الوفاق السعودي – الإيراني، فهو من جهة يحظى بأولوية لدى الجانبين، ويتمتع باهتمام دولي قوي. وهو، من جهة ثانية، يشهد حوارات ومفاوضات مباشرة وغير مباشرة، متعددة الأطراف، أهمها الحوار المباشر بين صنعاء والرياض، في ظل صمت المدافع والصواريخ والمسيّرات منذ قرابة عام، وعلى رغم مرور عدة أشهر على انقضاء “الهدنة” بين الأطراف المتحاربة.
لكن حتى هذا الملف تنتظره عقبات وتحديات متعددة، منها تعدد مصالح الأطراف الإقليمية (والخليجية بصورة خاصة)، ومنها تعدد اللاعبين المحليين وتباين مصالحها، ولا سيما تفاقم النزعات الانفصالية لجنوبيين كثر، ومنها حرص “إسرائيل” أولاً، والولايات المتحدة وبريطانيا تالياً، على الاحتفاظ بمواطئ أقدام عند ضفاف باب المندب، إن بصورة مباشرة، أو عبر حلفاء ووكلاء.
سوريا هي المستفيد الثاني من مناخات هذا التقارب، فالمملكة قبل الزلزال، وخصوصاً بعده، بدأت تعطي إشارات إلى اعتمادها مقاربة جديدة حيال دمشق، وطائراتها هبطت للمرة الأولى منذ أكثر من عقد، في مطاري دمشق وحلب، محمَّلة بالمساعدات والإغاثة.
وليس مستبعَداً أن تكون المفاجأة التالية هبوط طائرة وزير الخارجية السعودي في مطار دمشق، والباب لم يعد مغلقاً بإحكام في وجه عودة سوريا إلى القمة العربية المقبلة في الرياض، ولا سيما بعد اتساع نطاق “موسم الحجيج العربي للعاصمة السورية”.
وفي ظني أن المقاربة التركية الجديدة حيال سوريا، والتحسن المطّرد في العلاقات بين أنقرة والرياض، وعلاقات بكين، ومن خلفها موسكو، بمختلف الأطراف، في مناخات أوكرانيا والحرب على “النظام العالمي الجديد”، جميعها عوامل مساعدة على حدوث اختراق في الملف السوري، ولا سيما إن أقدمت الدبلوماسية السورية على اجتراح المبادرات التي تسعى لالتقاط هذه الفرصة النادرة، وتبني على الشيء مقتضاه.
العراق سيشهد عملية إعادة تدوير للزوايا الحادة في مواقف الأفرقاء، وهو صاحب الفضل الثاني بعد مسقط وقبل بكين، في رعاية جولات الحوار الخمس بين البلدين في بغداد، وهو يتولى أيضاً قنوات اتصال خلفية بين طهران وكل من عمّان والقاهرة. فحُسن الجوار الإقليمي يجعل مهمة أي حكومة عراقية أسهل للغاية، بينما حروب الوكالة والتراشق من خلف المتاريس تُلحق أفدح الضرر بأمنه واستقراره ونسيجه الاجتماعي وهويته الوطنية.
أمّا لبنان، فما زال مشواره للتعافي، سياسياً واقتصادياً، أكثر تعقيداً، إن بسبب تفاقم أدوار اللاعبين المحليين (“الطبقة السياسية”)، أو بسبب تعدد اللاعبين الإقليميين والدوليين، أو نتيجة تراجع مكانته عموماً في الإقليم، لكن مناخات الانفراج السعودي – الإيراني ستلقي ظلالها الإيجابية على فرص التوافق على رئيس جديد للبلاد، أو بلورة “رزمة شاملة” تُرضي مختلف الأطراف الفاعلة، ومن ضمنها حزمة الإصلاحات المطلوبة للتعافي، مالياً واقتصادياً.
وإن كنّا سابقاً طرحنا، من باب “الفانتازيا التحليلية”، صيغة “إ – س” بديلاً محتملاً من معادلة “س – س”، التي حكمت الوفاق اللبناني أعواماً، فإن هذه المعادلة تصبح عاملاً جديداً، مقرِّراً لوجهة الأحداث والتطورات اللبنانية، وحاكماً للوفاق بين أطراف هذا البلد المنكوب في صراعاته، وحروب الآخرين عليه.
رابعاً مسار التطبيع مع “إسرائيل”؟
من دون تهوين أو تهويل، فإن من المتوقع لمسارات التطبيع “الإبراهيمية”، أن تتأثر سلباً بتداعيات التقارب السعودي – الإيراني، وأجد أن من الخطل اعتماد التصريحات الإسرائيلية المتضاربة في هذا الشأن، كمصدر لبناء التوقعات والسيناريوهات لهذا المسار. فهذه التصريحات محكومة بالبازار السياسي في “إسرائيل” بين الحكومة والمعارضة، وهي مصمَّمة من أجل تسجيل الأهداف في مرمى هذا الفريق أو ذاك.
السعودية “درّة تاج المسار الإبراهيمي”، هكذا نظر إليها نتنياهو ونظّر، والمرجح أن المملكة لن تخطو خطوات واسعة في هذا المسار، بعد الاتفاق، وفي ظل حكومة اليمين الفاشي المنفلتة من كل عقال، وبالنظر إلى مكانة المملكة وحجمها ودورها.
لكن، ليس من الحكمة إسقاط احتمال قيامها بخطوات أقل شأناً على هذا المسار. ودعونا نسترجع حقيقة، مفادها أن أكثر الدول العربية اندفاعة نحو دمشق وإقداماً على تبادل الزيارات وفتح السفارات معها، هي دولٌ تصدرت المسار “الإبراهيمي”، لكأن العلاقة ببعض أركان “محور المقاومة”، يُراد بها التغطية على الخطوات التطبيعية، إن لتقليل ردود الأفعال عليها، أو لاستحداث قدر من التوازن في العلاقات الإقليمية والدولية.
الجزم بمستقبل التطبيع بين “إسرائيل” والسعودية، بالاستناد فقط، أو أساساً، إلى العامل الإيراني، ينطوي على قدر من المجازفة، ثم إن أبو ظبي، التي تقود القاطرة “الإبراهيمية”، تقيم أوسع التبادلات التجارية وتتبادل السفارات والسفراء مع طهران، وتبرم عدداً من الاتفاقات الأمنية معها. وهي كانت رائدة التقارب العربي مع دمشق، من دون أن تجد في ذلك عنتاً أو مشقة.
صحيح أن زخم المسار الإبراهيمي تراجع قليلاً في الآونة الأخيرة، وأنه فقد وظيفته المرسومة زمن ترامب، بصفته كـ”ناتو شرق أوسطي” في مواجهة إيران، وصحيح أن نظرية نتنياهو، القائمة على تعظيم الخطر الإيراني، مصحوباً بتهميش مكانة القضية الفلسطينية كأساس لتحالف “المعتدلين العرب” و”إسرائيل” ضد إيران، أصابها الوهن، لكن الصحيح كذلك أن الموجة الجديدة – “الإبراهيمية” من التطبيع، ارتبطت بعلاقات القوة وديناميتها بالنسبة إلى الدول المطبعة، ولم تعد مرتبطة بالملف الإيراني حصراً، ولا هي متعلقة بمجريات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي أو بمن يحكم “إسرائيل”، كما كانت عليه حال الموجة الأولى من التطبيع (مصر، الأردن والسلطة).
خامساً: هل ستقف واشنطن و”تل أبيب” ساكنتين حيال هذا التقارب، وما الذي في مقدورهما أن تفعلاه؟
الإجابة عن هذا السؤال تتخطى إعلان بكين الثلاثي، بما هو تقارب بين السعودية وإيران، إلى دور الصين المتعاظم وعلاقاتها النامية بالطرفين، امتداداً لموقف البلدين تجاه موسكو: السعودية في إطار “أوبك +”، وطهران على خلفية التعاون العسكري مع روسيا.
هنا يتقرّر رد الفعل الأميركي بصورة خاصة، في سياق الصراع على شكل “النظام العالمي الجديد” ومضمونه. أما “إسرائيل”، فلديها أولوية إيرانية تتفوق على أيّ أولوية أخرى. وإن توصلت واشنطن و”تل أبيب” إلى خلاصة مفادها أن مصالحها المشتركة، بصرف النظر عن تفاوت الأولويات، تقتضي التصرف بقوة حيال البلدين، فلن تتورّعا عن فعل ذلك.
نتنياهو قالها صريحة: التقارب السعودي – الإيراني لا يقلل الأهمية والزخم للتقارب بين ضفتي الأطلسي في النظر إلى التهديد الإيراني، الأمر الذي يعني أن خطط ضرب إيران ستتكيف (ولا تتغير) مع خروج السعودية ودول خليجية أخرى من المعادلة. وتقديرات بعض الخبراء، الهامسة والمعلنة، تستحضر سيناريو اغتيال الملك خالد بن عبد العزيز، وأحياناً تستدعي تجربة عمران خان، على نحو يشي بالقلق من أكثر السيناريوهات تطرفاً.
لكن عرقلة تطور العلاقات، وخلق مشكلات للطرفين، ثنائية أو في دول الأزمات المفتوحة، يظلان من السيناريوهات الأقل تطرفاً والأكثر احتمالاً. على أن الأهم من كل هذا وذاك، أن اليد الأميركية الطولى، والذراع الإسرائيلية الأطول في محيط الإقليم، لم تعودا قادرتين على فعل ما تشاءان، وقتما تشاءان، وكيفما تشاءان. فلا واشنطن قدَر لا رادّ له، ولا “تل أبيب” بقادرة على ملء فراغها، ولا سيما إن تضافر “وعي المصلحة” بـ”الإرادة السياسية” لانتهاج طريق آخر، خارج مظلة التتبيع والاستتباع.
الميادين نت