ما بعد التعدّديّة الثقافيّة

هل لا زال مفهوم التعدّدية الثقافية يحظى برصيده السابق في الغرب أم ثمّة تغييرات بنيويّة ظهرت عليه، لدرجة أفقدته جاذبيّته أو بعضها، ولاسيّما في ظلّ صعود موجة الإرهاب الدولي وارتفاع منسوب حركة الهجرة واللجوء، بفعل تدفّق مئات الآلاف من اللّاجئين من بلدان الجنوب الفقير إلى بلدان الشمال الغني؟

مثل هذا السؤال يستولد سؤالاً آخر، هل إنّ ظاهرة التعدّدية الثقافية جديدة على المجتمعات أم إنّها قديمة قِدم البشرية؟ وإذا كانت الدولة بمفهومها الحديث، نتاج الفكرة القومية في أوروبا ومتعلّقاتها ومتفرّعاتها لاحقاً، وخصوصاً في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اللذين شهدا رواجاً للصراع القومي، فإنّ القرن العشرين عرف صعود الصراع الإيديولوجي، في حين أنّ القرن الحادي والعشرين اتّسم بصراع الهوّيات الدينيّة والإثنيّة واللغويّة وغيرها، ولاسيّما بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي وانتهاء عهد الحرب الباردة.

لكنّ فكرة التعدّدية الثقافيّة تمتدّ إلى أبعد من ذلك، كواقع معيش عرفته الأمم والشعوب، وليس خطاباً فلسفياً أو تجلّياً فكرياً أو توجّهاً نظرياً. وقد كانت الإمبراطوريّتان الرومانية والعثمانية تُعتبَران أنموذجَيْن تاريخيَّيْن لمجتمعات أو دول قائمة على التعدّدية الثقافية.

وبعد الحربَيْن العالميّتَين الأولى والثانية، اتّخذ مفهوم التعدّدية الثقافية بُعداً إيديولوجياً وسياسياً وحقوقياً، وخصوصاً في ميثاق الأمم المتّحدة بتأكيد حقّ تقرير المصير، باعتباره حقّاً للشعوب والأُمم، وخصوصاً تلك التي تسعى لتحقيق الانعتاق والاستقلال، وهو حقّ ملزِم وغير قابل للتصرّف، أو كما يسمّى باللاتينية Jus Cogens . وكان “إعلان تصفية الكولونيالية” الصادر من الجمعية العامّة للأمم المتّحدة رقم 1514 العام 1960 قد جاء عليه، مثلما أدرج في العهدَين الدوليَّين: الأول الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسياسية، والثاني الخاصّ بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الصادران في العام 1966، كما تمّ التأكيد على احترام حقوق ما سمّي “بالأقلّيات”، وهو الذي استند إليه “إعلان حقوق الأقليّات” الصادر عن الجمعية العامّة للأمم المتّحدة في العام 1992، وكذلك “إعلان حقوق الشعوب الأصلية” الصادر في العام 2007، وإنْ بقي مفهوم الأقلّيات يستحمل معنى الاستتباع إزاء مفهوم “الأغلبيات” ويستبطن عدم التكافؤ والمساواة، الذي تعنيه الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، ومثل هذا الفهم لا يرتقي بالطبع إلى مفهوم التعدّدية الثقافية، التي تستند إليها الدول العصرية والمبادئ الدستورية والمواطنة المتساوية، حتّى وإن جرى تفسيرها على نحو مختلف ومتعارض، كما تجري هذه الأيام ارتباطاً بمأساة اللاجئين.

حين توجّه مئات الآلاف من البشر على شكل كتل وجماعات وموجات إلى أوروبا بصفة لاجئين، وهم بالطبع من ثقافات مختلفة جذرياً عن الثقافة الغربية السائدة، تصدّت لهم العديد من الحركات اليمينيّة والعنصريّة والمتعصّبة في الغرب، والتي ازدادت وتيرة تطرّفها ومناوءتها للّاجئين وللهجرة، تارةً بزعم الحفاظ على علمانية الدولة، وتارةً أخرى بزعم عدم تعريض الثقافة الليبرالية وقيمها لخطر التديّن أو الأسلمة، وخصوصاً أنّ القسم الأعظم من المهاجرين هُم من الدول العربية والإسلامية، وتارةً ثالثة بزعم عدم رغبة اللّاجئين في الاندماج، وتارةً رابعة بذريعة التحذير من الإرهاب الدولي، علماً بأنه ليس بإمكان أحد أن يوقف حركة انتقال الأفراد التي استفحلت على نطاق واسع من مجتمع إلى آخر في ظلّ العولمة وثورة الاتّصالات والمواصلات، ناهيك بالتبادل الثقافي والتفاعل الحضاري داخل المجتمعات نفسها، تلك التي لم يعرفها التاريخ البشري من قبل.

وبالعودة إلى ستينيّات القرن الماضي، فقد كانت التعدّدية الثقافيّة في عدد من المجتمعات الغربية ظاهرة مقبولة ومُقرَّة، وخصوصاً الإقرار بالتنوّع في الأديان والأعراق والثقافات، التي تقبل بعضها البعض على أساس المواطنة واحترام التباينات مع بقاء بعض الإشكاليّات الداخلية التي لم تجد حلولاً ناجعة. لكنّ مثل هذا الإقرار فتح الباب أمام انتقال جماعات كبيرة من مواطني البلدان المُستعمرَة إلى الدول الاستعمارية السابقة، وهكذا تشكّلت تعدّدية ثقافية جديدة، اعتمدت على إدماج المهاجرين مع إرثهم الثقافي خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وخصوصاً في بريطانيا والبلدان الأنكلوسكسونية، بينما كانت مقاربة فرنسا مختلفة، حيث استهدفت صَهر المهاجرين في بوتقة الدولة والمجتمع وقيمهما، وقد ترك المنهج الأوّل تأثيرات إيجابية على المهاجرين، وعلى البلدان التي استقبلتهم بالطبع، في حين ترك المنهج الثاني بعض التأثيرات السلبية التي ظهرت نتائجها لاحقاً.

عشيّة انتهاء الحرب الباردة، ظهرت تنظيرات جديدة تحت عناوين مختلفة، اتّسعت بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) العام 2001 الإرهابية التي حصلت في الولايات المتّحدة، داعيةً إلى إعادة النظر في مفهوم التعدّدية الثقافية وتطبيقاتها، ومنها “نظرية نهاية التاريخ” لفرنسيس فوكوياما، التي اعتبرت أنّ التحدّي العظيم الذي تواجهه الديمقراطيات الغربية يتمثّل بالخطر الإرهابي واللّاجئين، الذين يتعذّر دمجهم، وهُم في غالبيّتهم من الدول الإسلامية. ودعا فوكوياما إلى تجاوز مفهوم التعدّدية الثقافيّة للجماعات واختزاله إلى العلاقة بالأفراد وحقوقهم، طالما أنّ بعض الجماعات ترفض القيم الغربية الليبرالية التي ينبغي التمسّك بها، طبقاً للتجانس والتماسك الاجتماعي المشترك.

إنّ بعض المواقف والإجراءات المُتّخذة في الغرب بشأن حقوق الجماعات الثقافية تضع الديمقراطيات الغربية أمام مفترق طرق، إمّا باستمرار احترام الخصوصيّات والهوّيات الفرعيّة والتفاعل الحضاري والتواصل الثقافي، أو التحوّل إلى تذويب الهويّات وإدماج الثقافات وصهرها، تحت عنوان القيم الليبرالية التي ينبغي التمسّك بها، وتلك ستعني رفض التعدّدية وعدم الاعتراف بالخصوصيّة الثقافية للآخر.

وتحت مسوّغات فكرية وأخرى أكاديمية، جرى الترويج لأطروحات “موت التعدّدية الثقافية” و”حدود التعدّدية الثقافية” و”ما بعد التعدّدية الثقافية” بزعم أنّ الاختلاف والتنوّع لم يكونا عنصرَيْن إيجابيَّين وتوحيديَّين، بل أدّيا إلى تقسيم المجتمع إلى بؤر اجتماعية و”غيتوات” متناحرة الثقافات، ولاسيّما الوافدة والرافضة للتأقلم والاندماج مع القيم الغربية داخل البلد الواحد الذي يحمل المواطن جنسيّته، لكنّه يرفض الانضواء تحت قيمه وهوّيته.

نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى