ما بعد كورونا.. عالم التكنولوجيا المفروض بالقوّة
مع الإعلان المتتالي عن بيانات الدّفاع في العالم، وتقييد التجمّعات، والتنفيذ الحذر لسياسات العزل، يصبح التباعد الاجتماعيّ هو الحلّ المرحلي رقم واحد في مواجهة فيروس كورونا، إلى حين توصّل أحد المشاريع الدولية إلى لقاح يخرج الناس إلى الشوارع فرحاً.
ومع غياب القدرة على تخمين المدة المتبقية للتباعد الاجتماعي المفروض، يبقى السؤال المهم: هل يصوغ العالم أنماطاً جديدة للعمل والحياة خلال الأزمة، ولا سيما في اقتصاد صُمِّم كالدراجة الهوائية، يقع ويصطدم في الأرض حال توقّفه؟ والأهم، كم تستمر هذه الأنماط؟ وهل ستكون البديل النهائي لما هو قائم (disruptive technology)؟
منذ أن التزم الجميع بيته، ومع موجات القلق الاجتماعي الأقوى في أيامنا هذه (رهاب الإفلاس)، يتساءل الأفراد: على أي قدر من الأهمية تأتي مهمّاتي التي أقوم بها يومياً في عملي؟ هل يمكن الاستغناء عنها ببساطة؟ هل ثمة بديل تقني يقوم بها، أو بالشقّ الأكبر منها؟ هل يمكنني تعلّم الأدوات التقنية الجديدة التي تلزم للعمل؟
أورد البنك الدولي في أحد تقاريره في العام 2016، أن 6% من المهن في الولايات المتحدة يمكن استبدالها في العام 2021، وهو ما يشمل 7 مليون عامل (خدمات المشتركين، إدخال البيانات، الأعمال المكررة في المصانع والمخازن).
لوتشيان فلوريدي، وفي كتابه عن الثورة الرابعة، تحدث عن موجة استبدال عدد كبير من المهن، تصل حد التطرف إلى المحامي والطبيب، واستمرار استبعاد الإنسان من العمليات الاقتصادية، مفسحاً المجال للآلات كي تتفاهم مع بعضها البعض.
إذاً، الطفرة التكنولوجية تجري عمليات استبدال واستبعاد للإنسان من عدد كبير من العمليات الاقتصادية، والذكاء الاصطناعي يتجاوز الإنسان في قدرته على قراءة البيانات الضّخمة وتحليلها بمنطق لا يعرف التحيّز.
تصاعدت في السنوات الماضية نداءات التعلّم عن بعد، واستخدام الدورات التدريبية عبر الإنترنت بدلاً من تلك المنظَّمة في القاعات المغلقة، إلا أنها لم تتمكّن من إغلاق مباني الجامعات بشكل كلي، أو الإحلال الكامل لمنظومة التعلّم التقليدية.
وكذلك، نجحت أنظمة التجارة الإلكترونية (E-commerce) بشكل غير مسبوق )3.53 تريليون دولار في العام 2019 كمبيعات تجزئة عالمياً)، إلا أنها لم تتمكّن من القضاء بشكل كامل على عادات التسوّق التي عرفها البشر في الأسواق مباشرة.
ولكن ما علاقة فيروس كورونا والتباعد الاجتماعيّ في ذلك كلّه؟
إنّ حلّ التباعد الاجتماعيّ، تفادياً للمرض، سيفرض بالضّرورة أنماطاً جديدة للعمل بدلاً من توقّفها. إنَّ الأنماط التي مرّت بمراحل انتقالية ناعمة في السابق (التعلّم الإلكتروني والتسوّق الإلكتروني على سبيل المثال)، لم تتمكَّن من الإحلال الكامل للمنظومة التي سبقتها (التعلّم التقليدي، والتسوّق المباشر)، ولكنها الآن تحظى بفرصة ذات طابع مأساوي لتكريس نفسها كنمط أساسي. وعلاوةً على ذلك، يهيئ لها الفيروس فرصة التخلّص من نسبة كبيرة من العاجزين عن التكيّف مع النظام الجديد؛ عالم التكنولوجيا المفروض بقوّة المرض هذه المرة. إن تداعيات فيروس كورونا تفتح الباب واسعاً أمام قلق استبدال المهن وفرض الأنماط الجديدة للعمل القائم على العزلة.
ثمة أطروحات متعجّلة حول الارتداد عن العولمة بعد إغلاق المطارات في العالم والحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة. إن التطور التكنولوجي الذي قادته الثورة الرابعة، وستقوده الثورة الخامسة، جاء ليستمرّ، لا ليتراجع.
يمكن القول إن فيروس كورونا وتداعياته، مثلما سهّلا الأرضية لانتشار عولمة جديدة قائمة على طابع تكنولوجي صارم في أنماط العمل والحياة، فإنهما أعطيا الولايات المتحدة الأميركية متسعاً من الوقت كي تستريح من منافسة تبدو نتائجها مرجّحة لصالح الصين، وتعيد ترتيب أوراقها من جديد.
أعلنت هيئات الاتصالات الدولية عن تأجيل الإعلان عن الأنظمة المعيارية لشبكات الجيل الخامس، الأمر الذي سيؤخّر عمليات تنفيذها في مشغلات الاتصالات في كلّ العالم. وفي هذا التأجيل فرصةٌ للولايات المتحدة، ولجمٌ لتفوّق الصين.
عالم ما بعد كورونا لا يريد الارتداد عن العولمة، ولكنه يريد متّسعاً من الوقت لحماية مركزها الحالي (الولايات المتحدة الأميركية)، ويمتلك فرصة استثنائيّة في فرض أنماط جديدة من العمل والحياة لم تفلح مراحل الانتقال الناعمة في تعميمها.
وفي سياق ذلك كله، تستعدّ الشركات التكنولوجية لمنصب الكاهن الجديد في العالم المقبل!
الميادين نت