ما زالت سوريا موحّدة.. اقتصادياً
يمكنك الاتصال بتاجر معروف في إحدى المدن الصغيرة الخاضعة لقوى «معارضة» والقريبة من الحدود مع تركيا، وأن تطلب منه مثلاً برّاداً من ماركة معيّنة بسعة كذا. يعطيك سعره واصلاً مركّباً في بيتك، سواء كان البيت في إدلب أو الرقّة، في دمشق أو درعا. وبالطبع يختلف السعر بحسب منطقة التسليم، وأحياناً أضعافاً مضاعفة. السعر دوماً بالليرة السوريّة، انطلاقاً من سعر صرف الدولار اليوميّ.
هذا هو الحال بالنسبة لمختلف أنواع السلع. حتّى إنّ الإنتاج الزراعي لمحافظتي إدلب أو القامشلي يُباع في لبنان ويُسهم هناك في عدم ارتفاع الأسعار بشكلٍ كبير برغم زيادة عدد سكّان البلد بأكثر من الثلث مع لجوء مئات الآلاف من السوريين. أمّا المنتجات المصنّعة الخفيفة من معلّبات وألبسة فمعظمها يأتي من تركيا. وتجدها في جميع الأسواق السورية، في اللاذقيّة كما في القامشلي ودير الزور، برغم التنافر بين تركيا والمهيمنين على هذه المدن السوريّة.
هكذا، كانت لافتة الإحصائيّة التي نشرتها تركيا، التي تفيد بأنّ صادراتها (الرسميّة) إلى سوريا عام 2014 قد عادت بعد انخفاض حادّ إلى ربعها عام 2012 إلى مستوى صادراتها عام 2010، فيما هذه الأخيرة كانت قد بلغت ذروة نموّها منذ سنة 2000 متضاعفة عشرة أضعاف! أي إنّ الصادرات التركيّة إلى سوريا عام 2014 بلغت نصف حجم الصادرات إلى إيران! والمُدهش أنّ قفزة الصادرات هذه أتت في سنة شهدت حرباً فوضويّة شرسة في سوريا، بين القوّات الحكوميّة والموالية والمعارضة المسلّحة، وفي ظل توسّع مناطق نفوذ «داعش» وسيطرته على ثلث الأراضي السوريّة، وصراعه الدامي مع «جبهة النصرة» وغيرها للهيمنة على آبار النفط. هذا عدا غزوة «داعش» لعين العرب/ كوباني وقضاء «النصرة» حينها على حركة «حزم» وبداية قصف التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في سوريا. كلّ هذه الأحداث والصادرات الرسميّة التركية إلى سوريا تقفز قفزة ملحوظة لم تشهدها صادرات لبنان مثلاً، فما بالنا بتجارة الترانزيت والأخرى غير الرسميّة.
إحصائيات التجارة الخارجية التركيّة توضح أنّ صادرات تركيا 2010 إلى سوريا تختلف عن تلك في 2014. فقبل الانتفاضة/ الصراع شكّلت الكهرباء والمشتقات النفطيّة والموادّ الأولوية للصناعات (خاصّة في حلب) معظمها. فيما طغت المنتجات الاستهلاكيّة الرخيصة الغذائيّة والنسيجيّة وموادّ البناء (الإسمنت من تركيا أمّا الحديد فمن الصين) والسيارات في 2014 وبعدها.
عزت بعض المصادر الإعلاميّة تصاعد الصادرات التركيّة أثناء الحرب إلى إعادة تموضع الصناعات السوريّة في تركيا بعد تدمير المركّب الصناعي في حلب. ويبرّرون هذا التفسير بأنّ عدد الشركات الجديدة التي أُنشئت في تركيا برأسمال جزئيّ سوريّ قد تعدّى 40 في المئة من مجمل الشركات الجديدة، بحيث تخطّت أعداد هذه الشركات أعداد الشركات الإيرانيّة أو الألمانيّة التي كانت لها الريادة قبلها. إلاّ أنّ العدد شيء والحجم شيء آخر، إذ إنّ معظم الشركات مع مساهمين سوريّين كانت محالّ تجارية صغيرة لكسب الرزق واستثمارات عقاريّة لشراء منازل لتفادي القوانين التركيّة التي لا تسمح بالاستثمار العقاري المباشر للأجانب. وأصلاً لم تكن الاستثمارات السوريّة كبيرة عدداً وحجماً في 2013 كي تساهم في قفزة الصادرات التركيّة عام 2014، وقد ازدادت بشكل كبير حتّى نهاية عام 2016 من دون أن تزيد حقّاً من الصادرات التركيّة في 2015.
صحيحٌ أنّ محافظتي عينتاب (غازي عينتاب) والاسكندرون (هاطاي) احتلّتا مكانة أساسيّة في الصادرات إلى سوريا، إلّا أنّ اسطنبول وأنقرة ومرسين، حيث تتموضع الصناعات الأساسيّة التركيّة، بقيت أيضاً رئيسة. وكما في حال مشتريات منظّمات الأمم المتحدة للموادّ الإغاثيّة من تركيا، تأتي مساهمة المناطق الحدوديّة من تركيا موادّ استهلاكيّة غذائيّة من طحين وسكر وزيوت ومن عددٍ محدودٍ من الشركات التركيّة المتخصّصة في تصدير هذه الموادّ بأسعار رخيصة وبجودة متدنية للعراق وإيران… من ثمّ لسوريا. أمّا السوريون القلائل الذين استثمروا في تركيا فهم يتوجهون بالأساس للسوق التركيّة الأكثر تطلّباً والأكثر سعةً وربحاً، لكن مع استثناءٍ كبير هو أنّ كلّ هذا لا يشمل النفط والمشتقّات النفطيّة. فهذه السلع لها «سوقها» الخاصّ، لا فقط تصديراً غير شرعيّ للنفط الخام المنتج في سوريا، بل تجارة للمشتقّات الضروريّة لمولّدات الكهرباء وللتدفئة ولحركة السيّارات. لا تأتي هذه الموادّ من تركيا، بل يتمّ إنتاج المازوت محليّاً من خلال معامل تكرير صغيرة بعضها موجود قرب الآبار والأخرى في مدن صغيرة تخصّصت في ذلك. كلّها تقريباً في مناطق «داعش» أو «النصرة» أو «الحكم الذاتي». لكنّ تجارتها بين هذه المناطق مع بعضها ومع المناطق الحكوميّة، تتمّ عبر «مراكز تسوّق» لها ميليشياتها الخاصّة التي تحميها. فيما يأتي معظم بنزين السيارات الذي ما زال نوعاً ما مدعوماً من مستوردات الحكومة أو تهريباً من لبنان. إذاً تجارة المشتقات النفطيّة في الاتجاهين، أضحت أهمّ من تجارة النفط الخام منذ أن تقلّص إنتاجه بشكلٍ كبير بعد ضربات «التحالف الدوليّ» على آباره ومعامل استخراجه.
هذا كلّه يشكّل شبكة اقتصادية ـ تجارية ضرورية للمعيشة لكنها تغذّي الحرب القائمة. شبكة نشأت مع فرض العقوبات الاقتصاديّة والماليّة على سوريا التي ساهمت في البداية في تمويل أجهزة الأمن السوريّة وفي إضعاف الانتفاضة التي نشأت سلميّة في معظمها. ثمّ تطوّرت كي تضحى السيطرة على مناطق الإنتاج كما على المعابر الخارجيّة والأخرى الداخليّة سبيلاً رئيساً لتمويل الحرب وأمرائها على جميع الأطراف.
هكذا تسيطر فصائل مسلّحة بعينها على المعابر الحدوديّة الرسميّة مع تركيا بعلم وموافقة السلطات التركية. وتأخذ عمولات على حركة البضائع الكثيفة التي لا تقتصر على المنتجات التركيّة لسوريا، بل تتضمّن أيضاً منتجات من دولٍ أخرى وكذلك بضائع ترانزيت نحو العراق، يتمّ أحياناً تصنيع جزئيّ لها داخل سوريا. هذا عدا المعابر غير الرسميّة وتجارة السلاح. في المقابل، تسيطر أجهزة أمن وميليشيات موالية على معابر غير رسميّة مع لبنان، لكن مع كميّات تبدو أقلّ.
هناك أيضاً معابر بين مناطق الهيمنة للأطراف المختلفة في سوريا، تتحيّد الحرب حولها. وحتّى المناطق المحاصرة تشهد معابر وأنفاقاً تستطيع أحياناً الشاحنات الكبيرة اجتياز أعماقها. وكلّ ذلك يموّل الحرب وأمراءها ومقاتليها في جميع الأطراف.
هكذا تجد البضائع ذاتها تقريباً في أنحاء سوريا كافة. الفارق الأساس هو سعرها الذي يرتبط بعدد المعابر التي يجب تخطيها لإيصالها وبمدى احتدام الصراع حول هذه المعابر. واللافت أنّ الليرة السوريّة ما زالت العملة الرئيسة لهذا التداول بالإضافة إلى الدولار الأميركي، بعدما فشلت محاولات الاستبدال بالليرة التركيّة في بعض المناطق.
بصورةٍ ما إذاً، ما زالت سوريّا موحّدة… عبر تجارتها الداخليّة وعملتها، برغم الحرب التي وحدت أيضاً معظم السوريين في الفقر والعوز.
صحيفة السفير اللبنانية