شرفات

ما فعلته سرّاً في الحديقة !

عماد نداف

من شرفة بيتي يمكنني أن أراقبَ حديقة الحي الذي أسكنُ فيه، ولا أخفيكم أنا لا أحبُّ زيارة الحدائق العامة، وأعترف أن أطول مدة أمضيتها في حديقة هي عشر دقائق!

صباح ذلك اليوم ، قبل سنوات طويلة، ومثل أي فتى مراهق، جذبتني الحديقة إليها كمغناطيس قوي، أحسستُ أن شيئاً ما ينتظرني فيها، ربما تكون فتاة جميلة، وربما تكون عاشقة تريد أن تحكي لي شيئاً عن قصتها، أو ربما تكون حمامة بيضاء تريد أن تعيش معي في قفص..

كانت الحديقة فارغة، خلتْ دروبها القليلة من المارة، ورسمتْ شمسُ الصباح الأولى ظلالها على المقاعد الخضراء الفارغة، وكأنها تنتظر زائراً ما يتكيء على مساندها وربما أكون أنا الزائر..

الشارع المجاور فارغ ، مر عامل التنظيفات يدفع أمامه عربته، وهو يرتدي سترة الأورانج المتسخة فوق ملابس زرقاء مهترئة، وبعد لحظات اختفى وغاب عن ناظري، ولم يبق مايشوش الرؤية عندي سوى قطة صغيرة جائعة كانت تمشي متهالكة تريد الخروج من حديقة خلت من بقايا الطعام.

كان كل شيء واضحاً تماما .

تعالى نعيقُ الغربان ، أوحت أصواتها بأنها تنبئ بخراب ما كما يعتقد الناس. لم أشاهد عصافير تتسابق في لعبة طيرنها الجنوني المعتاد، حتى الستاتي الرمادية اختفت وكأنها نأت عن المكان.

في تلك اللحظة ، دفعني شيء ما إلى التفكير بزيارة الحديقة ، لا أعرف ماهو ، شيء غريب ، صوت عميق من داخلي ، صاح بي :

إنزل ياولد !

انزل واجلس في الحديقة ..

استجبت للدعوة ، نزلت مرتديا بيجامتي الرياضية ، وعبرت الشارع نحوها، وتوجهت إلى أول مقعد فارغ، وجلست أتكئ على مسنده الخشبي، سألت نفسي أين أولئك العشاق الذين يتهامسون في الحدائق العامة بأسرارهم  ومشاكلهم أو ربما يتبادلون كلمات الغزل المبتكرة؟

اختفوا جميعاً، أصحبت الحديقة فارغة من البشر، وكأنها أعدت لي فخا لأقع في الجرم المشهود الذي سأحكي عنه..

ثمة صوت سحري للهدوء الذي عم الفسحة من حولي، كسر هذا الهدوء نداءٌ من شجرة فتية وارفة، فلبيت نداءها، وذهبتُ وجلستُ تحتها على المرج الأخضر الندي، رغبت في إشعال سيجارة، بحثت في جيوب البيجامة الرياضية عن علبة سجائري، فلم أجد سوى مفاتيح البيت، أعدت التفتيش من جديد عبثاً، فانقهرتْ رغبة التدخين عندي.

أبقيت المفاتيح بيدي ، وقلبتها بين أصابعي أحاول تناسي السجائر الضائعة، فهاجمتني فكرة غريبة : احفر اسمك ياولد على شجرة ثم دوّن عبارة ما تحتها!

حاولت تناسي الفكرة ، لكنها ألحت :

احفر اسمك ياولد على شجرة ثم دوّن عبارة ما تحتها!

سارعت إلى حفر اسمي بإصرار نرجسي لكي يعجز الدهر إزالته، ثم انتقيت العبارة التي أريدها، وبدأت أحفرها بهدوء وتركيز. أنجزت حفر الحرف الأول والثاني والثالث من الكلمة الأولى (أنا)، ثم حفرت حروف الكلمة التالية (أحب) ، وشرعت بكتابة الكلمة الثالثة، فإذا بحركة مريبة تجتاح الحديقة، هذه الحركة جعلتني أنجر الكلمة الثالثة بسرعة.

تدافع كثيرون نحوي، لا أعرف من أين جاؤوا ، مثل الشياطين برزوا أمامي وخلفي، وعلى يميني، وعلى يساري، كانوا طوال القامة، متجهمي الوجوه، غائبي النظرات ، كأنهم من سكان كوكب آخر .

كانوا يرددون العبارة نفسها : أمسكوه .. أمسكوه .. !

لم أستطع حفر النقطة الأخيرة للكلمة التي تنتهي فيها العبارة ، أمسكوا بي بأياديهم القوية، غرسوا أظافرهم في لحمي مثل كلابات حديدية، نطقت أفواههم بعبارة واحدة (ياحقير) ، ففاحت منهم رائحة كريهة مثل رائحة الخل.

حاولت الإفلات ، فتشبثوا بي أكثر. صرخت،  وكان احتجاجي يتصاعد: اتركوني ، اتركوني ، بقي لي حرف واحد من الكلمة الأخيرة ، لا يعقل أن تكون العبارة المدونة تحت اسمي بهذا المعنى : أنا أحب الحربة!

سمعت قهقهة : (ياحقير .. ياحقير.. ياحقير) .

رجوتهم .. اتركوني أتم الحرف الأخير من عبارتي., لكن أحداً لم يستجب لي .. وكانت رائحة الخل تنهش صدري، إلى أن غبت عن الوعي، وصرتُ صيدا سهلاً لهم.

أخذوني، وأخفوني في حفرة عميقة سنوات طويلة، لم أرَ فيها الشمس، ومضى الزمن بطيئاً، ثم فجأة أخرجوني ، ورموني في الشارع ..

عدت إلى بيتي، فرح أهلي وأصدقائي بي، قال واحدٌ منهم : اشتعل رأسه بالبياض، وقال آخر: تغضن وحهه، وقال أخي: اطلب واتمنى. قلت : أريد أن أضع الحرف الأخير لعبارتي. سألني: أي عبارة يامجنون ؟ أجبته : تحت في الحديقة ..

أخذني إلى الحديقة، رأيتُ الشجرة وارفة ذات جذع قوي دائري، هي نفسها وقد كبرت مثلي،  يا ألله.. كبرت الأشجار مثلي.

اقتربت منها، العبارة كانت في الجانب الآخر من جذعها. اقتربت أكثر، رأيت طفلاً صغيراً جميلاً يتهجى العبارة وكأنه يسخر مني: أنا أحب الحربة .. ا ل ح ر ب ة.. الحربة!

وفجأة كف عن الضحك، وقبل أن يراني ، وبشجاعة غريبة، أخرج من جيبه مفتاحاً يشبه مفتاح بيتي، وبدأ بحفر النقطة الأخيرة في العبارة ، ثم وجدته يصيح بسعادة : أنا أحب الحرّية، ا ل ح ر ي ة ، ا ل ح ر ي ة !!

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى