ما هي السيناريوهات المتوقعة للانتخابات في ليبيا ؟
كان من المفترض أن تجرى يوم الجمعة 24 ديسمبر (كانون الأول) 2021 أول انتخابات رئاسية في تاريخ ليبيا بمشاركة 2.8 ملايين ناخب ليبي، وهي انتخابات ينتظرها العديد من الليبيين والعديد من الأطراف الإقليمية والدولية، بعد سنوات من حكم معمر القذافي لحقتها سنوات من الحرب والعنف والدم إثر سقوطه.
تبددت آمال منتظري الانتخابات بمجرد إعلان المفوضية الوطنية العليا للانتخابات تأجيل الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية يوم الأربعاء 22 ديسمبر 2021 إلى أجل جديد مبكر حسب بيانها، واقتراحها 24 يناير (كانون الثاني) 2022 تاريخًا جديدًا للبت فيه من قبل البرلمان. هذه ليست المرة الأولى التي يجري فيها التأجيل؛ فقد تأجلت في مناسبة أولى في 10 ديسمبر 2018 لتكون في أوائل سنة 2019 ولم يحصل ذلك كما أعربت جملة من الأطراف الدولية بدورها عن أسفها لهذا التأجيل.
خلفيات التأجيل
اتخذت المفوضية الوطنية العليا للانتخابات قرار التأجيل بسبب رصدها اختلالات بحسبها، وعجزها عن تحديد القائمة النهائية للمترشحين للرئاسية بسبب «قصور التشريعات الانتخابية فيما يتعلق بدور القضاء في الطعون والنزاعات الانتخابية»، كما ورد في نص بيانها، حيث عرف المسار الانتخابي تدخلًا من القضاء في البت في ملفات المترشحين بالقبول أو الرفض على غرار ما حصل في ملفي المرشح سيف الإسلام نجل معمر القذافي، وعبد الحميد الدبيبة رئيس الحكومة الحالي، وتضيف المفوضية الوطنية العليا للانتخابات أيضًا، أن التداخل القائم بين المعطيات السياسية والأحكام القضائية الصادرة من الأسباب الرئيسية لقرار التأجيل.
أعلنت لجنة متابعة الانتخابات ببرلمان طبرق شرق ليبيا من جهتها، أنه وبعد الاطلاع على التقارير الفنية والقضائية والأمنية، يستحيل إجراء الانتخابات في الموعد؛ إذ قدمت هذه التقارير في جلسة الاثنين 27 ديسمبر 2021، ويرجح أن هذه التقارير قد أشارت إلى تدخلات أجنبية في الانتخابات، بالإضافة إلى ما تضمنه تقرير المباحث الجنائية من معلومات وصفها النائب علي التكالي «بالمعلومات الخطيرة التي تهدد الأمن القومي»، وتطرقت هذه التقارير أيضًا إلى الكم الكبير من السلاح المنتشر في البلاد، وقد صرح المترشح للانتخابات الرئاسية ووزير الخارجية السابق في حكومة شرق ليبيا برئاسة عبد الله الثني، ورئيس حركة المستقبل الليبية عبد الهادي الحويج، بوجود 21 مليون قطعة سلاح في ليبيا وانتشار واسع للمجموعات المسلحة.
وقد عد إبراهيم البابا عضو الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور بليبيا في تصريح لـ«ساسة بوست» وفي إجابة عن الأسباب الحقيقية لتأجيل موعد الانتخابات بأنه «منذ البداية كانت مقومات إجراء انتخابات في تاريخ 24 ديسمبر 2021 غير متوفرة، وأهمها عدم وجود أدنى توافق على الإطار المنظم لهذه الانتخابات، خصوصًا في ظل عدم احترام المسار الدستوري الذي ينتهي بالاستفتاء على مشروع الدستور المعد من الهيئة التأسيسية أو حتى التوافق على قاعدة دستورية مؤقتة رغم أنها خطيرة، بالذات في حالة الانتخابات الرئاسية».
ويضيف «أن هناك طرفًا واحدًا يمثله مجلس النواب يحاول عمل كل الأطر، وهذا مرفوض من باقي الأطراف، فمحاولته الأخيرة بإصدار قوانين الانتخابات الرئاسية والبرلمانية فيها العديد من المخالفات الإجرائية والموضوعية، وما زال المجلس مستمرًّا على هذا النهج»، وقد صرح أيضًا بأن «الظروف الحالية لليبيا لن تسمح بقيام انتخابات حرة ونزيهة في ظل عدم سيطرة حكومة الوحدة الوطنية على كامل التراب الليبي وانتشار السلاح ووجود المرتزقة، وهذا ما أكدته هيومن رايس ووتش في آخر تقاريرها بخصوص العملية الانتخابية في 2021».
اعتبر البابا أيضًا أن «الوسيط الدولي المتمثل في بعثة الأمم المتحدة ومستشارة الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفاني وليامز، قد تجاوزوا مهامهم وبشكل فاضح من خلال ضرب المسار الدستوري، والبحث عن مسارات بديلة غير شرعية وغير متوازنة ومؤقتة لإنجاز الانتخابات بناء عليها، في سابقة لم تحدث من قبل، وهذا يعد وصمة عار في جبين المجتمع الدولي الذي يدعي الديمقراطية واحترام إرادة الشعوب».
تتعدد الأسباب المعلنة المتعلقة بتأجيل الانتخابات، لكن الواضح أن غياب التوافق بين الأطراف الأساسية في ليبيا حول قواعد اللعبة الدستورية والسياسية والتخوفات المتبادلة بين مختلف المترشحين والداعمين لهم داخليًّا وخارجيًّا حول نتائج الانتخابات هو السبب الرئيسي لهذا التأجيل.
ردود الأفعال الدولية حول قرار التأجيل
أجمعت مختلف الأطراف الدولية الفاعلة على ضرورة إجراء الانتخابات وفق إرادة الشعب الليبي في أقرب الآجال؛ إذ صدر بيان منسوب للأمين العام للأمم المتحدة أكد «مواصلة مستشارته الخاصة بشأن ليبيا، السيدة ستيفاني وليامز، وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، دعم العملية التي يتملك زمامها ويقودها الليبيون لمواجهة التحديات الراهنة، وضمان إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أسرع وقت ممكن».
كما صرح المتحدث باسم الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، تصريحًا أيضًا قال فيه إن «ليبيا تمر بمنعطف خطير يفرض على الجميع التكاتف والتعاون لإنجاز الاستحقاق الانتخابي في أقرب الآجال». جل البعثات الدبلوماسية في ليبيا شددت على الموقف نفسه، وهو إجراء الانتخابات في أقرب الآجال وعلى أرضية قانونية وسياسية متفق حولها من قبل مختلف الأطراف الليبية.
تنازع الشرعيات وتجدد الاشتباك مرة أخرى
نتج من قرار تأجيل الانتخابات تجدد وضعية الاشتباك السياسي بين مختلف الفاعلين السياسيين في ليبيا مرة أخرى، والعودة إلى مربع تنازع الشرعيات، مع تخوفات من إمكانية عودة البلاد إلى مربع التفكك والعنف؛ إذ برز إلى السطح خلاف متجدد حول دور حكومة الوحدة الوطنية في علاقة بالفترة المقبلة بين مؤيد لبقائها إلى حين تسليم الحكم إلى رئيس وبرلمان جديدين، وبين ضرورة استقالتها أو استقالة رئيسها في الحد الأدنى بوصفه مرشحًا للرئاسة.
وهو ما أكده الدبلوماسي السابق والخبير في الشؤون الليبية، بشير الجويني، في تصريح لـ«ساسة بوست»، معتبرًا «أن جوهر الخلاف حول شرعية عبد الحميد دبيبة رئيسًا للحكومة؛ إذ يرى البرلمان أن شرعية دبيبة انتهت يوم 24 ديسمبر تاريخ إعلان تأجيل الانتخابات، في حين يتمسك دبيبة بشرعيته رئيسًا لحكومة الوحدة الوطنية إلى غاية تسليمها بعد الانتخابات».
القوى الإقليمية ودورها في الصراع الداخلي
تعد ليبيا منذ 2011 ساحة لصراعات إقليمية متعددة الأطراف والمصالح، كان لهذه الأطراف رأي يتعلق بموضوع تغيير السلطة التنفيذية قبل إجراء الانتخابات بين مؤيد للاستقرار الحكومي وضاغط على رئيس الحكومة ورافض مواصلته، فقد صدر بيان مشترك بين كل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا طالبوا من خلاله بأن يجري «نقل السلطة من السلطة التنفيذية المؤقتة الحالية إلى السلطة التنفيذية الجديدة، بعد إعلان نتائج انتخابات برلمانية ورئاسية فورية».
لم تكتف بريطانيا بالبيان المشترك لتصدر بيانًا منفردًا كان أكثر المواقف وضوحًا في دعم الدبيبة؛ إذ أكدت السفارة البريطانية في ليبيا على أنها «ستواصل الاعتراف بحكومة الوحدة الوطنية سلطة مكلفة بقيادة ليبيا إلى الانتخابات»، وأنها لا تؤيد «إنشاء حكومات أو مؤسسات موازية».
وقد جلب هذا الموقف لبريطانيا نقدًا من قبل مجموعة من الليبيين المعارضين لهذا التوجه، وتسبب في قرار البرلمان الليبي باعتبار سفيرة بريطانيا في ليبيا شخصية غير معترف بها، وقد نبهت تركيا بدورها إلى خطورة إحداث فراغ في الشرعية والسلطة إلى أن يجري تشكيل حكومة جديدة عقب الانتخابات.
يتعرض الدبيبة أيضًا إلى ضغط يظهر من خلال مطالبة مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة بضرورة تكافؤ الفرص بين جميع المترشحين في إشارة لعبد الحميد الدبيبة وخليفة حفتر وعقيلة صالح، وتقف كل من روسيا ومصر والإمارات وراء موقف البرلمان ولجنة متابعة الانتخابات القاضي بضرورة تغيير الحكومة لضمان استقلالية السلطة وحياديتها، بحسبهم.
شهد الإقليم في الأشهر القليلة الماضية تسويات جديدة بين القوى المهمة فيه، خاصة ما حصل من تفاهمات جديدة بين تركيا ومصر وتركيا والإمارات، وهو ما يرجح بأن المواقف الإقليمية المذكورة سابقًا لن تكون ثابتة وقد تساهم التفاهمات المستجدة في الدفع نحو تسوية الملف الليبي باعتماد حل وسط يضمن تحقيق الانتخابات والذهاب بالبلاد نحو الاستقرار.
وقد ظهرت في الساحة الليبية مؤخرًا عديد من المؤشرات التي تعكس التسويات الإقليمية الأخيرة، ومن أبرزها الزيارة الأخيرة بتاريخ 15 ديسمبر 2021 لوفد من البرلمان المحسوب على حفتر وعقيلة صالح برئاسة المكلف الحالي برئاسة البرلمان، فوزي النويري، للبرلمان التركي بأنقرة، واستقبالهم من قبل رئيس لجنة الصداقة التركية الليبية عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، أحمد يلدز، حيث اعتبر النائب زياد دغيم أحد أفراد الوفد الليبي أن الزيارة تستهدف تطبيع العلاقات بين تركيا وكل المناطق الليبية وليس منطقة واحدة، مضيفًا بأنهم انتهزوا فرصة التقاربات الجديدة في المنطقة لتحسين علاقات ليبيا بجميع الدول في الإقليم، ومنها تركيا، وقد نتج من هذه الزيارة اتفاق على استئناف الرحلات الجوية إلى مطارات المنطقة الشرقية بعد الترتيبات الأمنية.
يعد تصريح وزير الخارجية التركي، تشاووش أوغلو، حول استعداده لاستقبال خليفة حفتر وعقيلة صالح مؤشرًا آخر على انعكاسات التفاهمات الإقليمية على الوضع في ليبيا، يمكن أيضًا اعتبار اللقاء الأخير الذي جمع خليفة حفتر بخمسة مرشحين للرئاسة في مدينة بنغازي، من أبرزهم وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا، وعبد المجيد سيف النصر، من دلالات هذا التقارب الإقليمي.
وتحيل مختلف هذه المؤشرات إلى إمكانية انعكاس التفاهمات الإقليمية على الوضع الداخلي في ليبيا ما لم تكن سببًا في المس بالمصالح الدبلوماسية والاقتصادية لهذه البلدان، ومن أهم الملفات التي ستطرح على طاولة النقاش في هذا الإطار هو اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الليبية التركية.
السيناريوهات الممكنة
قرر مجلس النواب، وهو صاحب السلطة في تحديد تاريخ الانتخابات، خلال جلسة الاثنين الأخير من ديسمبر 2021، استدعاء المفوضية الوطنية العليا للانتخابات لتقديم تقريرها حول أسباب تأجيل الانتخابات، وذلك في جلسة تجري في الأسبوع الأول من العام الجديد 2022.
ويتفق أغلب الملاحظين على اعتبار شروط إنجاز انتخابات خلال شهر غير متوفرة، ومن ثم لن يخرج قرار مجلس النواب عن دائرة تأجيل جديد، ويبقى التقدير هنا حول تفاصيل إدارة البلاد خلال المرحلة المقبلة وزمن المرحلة الانتقالية الجديدة وأفق إنجاز الانتخابات.
إلى جانب أن تمسك عبد الحميد الدبيبة بمواصلة ترأسه للحكومة إلى حين تسليمها إلى سلطة منبثقة عن انتخابات، وحرص عقيلة صالح وخليفة حفتر وفتحي باشاغا على اعتبار خروج دبيبة من الحكومة شرطًا أساسيًّا لإنجاز الانتخابات، يجعل من التوافق على موعد قريب للانتخابات من المسائل الصعبة.
ويبقى أمام ليبيا إمكانية تحقيق معادلة توافقية محليًّا بمساهمة الأطراف الدولية، وعلى رأسها بعثة الأمم المتحدة، وذلك من خلال الضغط على الأطراف المتنازعة وإيجاد التوافقات الضرورية بينها، وجرها من جديد إلى عملية سياسية تنتهي بإجراء انتخابات وتحقيق عدالة انتقالية تساهم في تحقيق المصالحة الشاملة في البلاد.
يرى المحلل السياسي الليبي من جامعة يورك البريطانية محمد تنتوش أنه من بين الخيارات الممكنة « الدعوة إلى انتخابات برلمانية بشكل مسبق على أن يعد البرلمان الجديد القاعدة الدستورية في موعد أقصاه شهر، وأن تجرى على أساسه الانتخابات الرئاسية، ومن ثم يمكن إذا ما أجريت الانتخابات نهاية شهر يناير أن نحظى بانتخابات رئاسية في شهر مايو (أيار) المقبل، لكن هذا الاتجاه سيواجه عرقلة كبيرة جدًّا من مجلس النواب الحالي وعقيلة صالح تحديدًا؛ إذ إن هذا سيعني غياب أي أداة ضغط يملكها عقيلة للدخول في أي مفاوضات سياسية وانتهاء دوره رسميًّا وربما إلى الأبد والأمر ذاته ينطبق على مجلس النواب».
ويعد خيار التمديد للحكومة الحالية برئيس جديد إلى حين الاستفتاء على الدستور، وإقرار قانون انتخابي وخروج القوات الأجنبية بالإضافة إلى إفراغ البلاد من المليشيات والمرتزقة، من الخيارات التي يمكن اللجوء إليها إذا حصل التوافق حولها، ويبقى خيار العودة إلى مربع العنف والحرب من الخيارات التي يجب أخذها بعين الاعتبار، وإن كان الدبلوماسي السابق، بشير الجويني، يستبعد ذلك في تصريحه لـ«ساسة بوست»: «تبقى مسألة العودة إلى السلاح مطروحة، لكن لن تكون على نطاق واسع، وسيناريو حرب شاملة بين الشرق والغرب غير وارد».
لقد مثَّل تأجيل الانتخابات في ليبيا، وإن كانت مقدماته موجودة من البداية، محطة جديدة لبيان هشاشة الوضع في البلاد، ودليلًا جديدًا على صعوبة تحقيق السلم والاستقرار السياسي حتى الآن في ليبيا في ظل غياب توافق داخلي شامل يجمع أغلب الأطراف المتنازعة، لكن يبقى هذا التوافق الداخلي صعب المنال في ظل بقاء ليبيا ساحة لتنازع أطراف إقليمية تحرك خيوط المعادلة الداخلية، ليبقى الأمل في حصول توافق بين هذه الأطراف الإقليمية المتنازعة قائمًا، خاصة بعد التقارب المستجد بين تركيا وخصومها في ليبيا ومصر والإمارات، وكذلك في ظل حرص بعثة الأمم المتحدة، ومن ورائها الولايات المتحدة، على إنجاز الانتخابات في أقرب الآجال.