ما هي فُرص نجاح اتّفاق وقف إطلاق النّار المُفاجئ في ليبيا؟
فجأةً، وبعد تحشيدٍ على كُل جبهات القِتال، هدَأ صوت طُبول الحرب وقارعيها في ليبيا وحلّ محلّها أنغام السّلام، وحديثٌ مِن الفريقين المُتصارعين على الأرض عن وقفٍ شاملٍ لإطلاق النّار، وانتخابات برلمانيّة ورئاسيّة، واختيار سرت مسقط رأس العقيد الراحل معمر القذافي (يا للمُفارقة) مدينةً منزوعةَ السّلاح، وتحويلها إلى عاصمةٍ جديدةٍ، ومقرٍّ للمجلس الرئاسي الجديد الذي من المُفترض أن تَحكُم البلاد مُؤقّتًا.
الإعلان عن وقف إطلاق النّار جاء مُتزامنًا من قبل السيّد فايز السراج، رئيس حُكومة الوفاق في الغرب، والسيّد عقيلة صالح، رئيس برلمان طبرق، ولكنّ البيانين تضمّنا العديد من النّقاط الإيجابيّة والعديد من الثّغرات والرّؤى المُختلفة أيضًا حول مسألة نزعِ السّلاح، وموعد الانتخابات وكيفيّة التصرّف بعوائدِ النّفط وأُسس اقتسامها، وإخراج القوّات الأجنبيّة.
قبل البحث في التّفاصيل التي قد يَكمُن فيها كُل جوانب الشّر، واحتمالات انهِيار حالة التّفاؤل السّائدة حاليًّا بالتّالي، مثلما حدث في اتّفاقاتٍ سابقة، تتضارب الأنباء حول السّبب الرئيسي الكامِن خلف هذا الاختراق الكبير المُفاجئ، الذي يَشِي باحتمال عودة العمليّة السياسيّة التفاوضيّة، وبما يؤدّي إلى انتخاباتٍ عامّة، رئاسيّة وبرلمانيّة، تأتي بقيادةٍ مُنتخبة، ومُعترف بها دوليًّا، تتولّى إدارة شُؤون البلاد، وتنضوي تحت زعامتها الأقاليم الليبيّة الثّلاثة برقة وطرابلس وفزان، وإعادة الحياة إلى الدولة الليبيّة.
هُناك تقارير إخباريّة تُعطي الفضل في هذا الاختراق للولايات المتحدة وسفيرها ريتشارد نورلاند الذي قام بزيارة لكُل من طرابلس والقاهرة وأنقرة، التقى خلالها بالسيّدين السراج وصالح بينما تتحدّث تقارير أخرى عن وساطة مُهمّة قام بها هايكو ماس، وزير خارجيّة المانيا، الذي زار طرابلس الاثنين الماضي في تزامنٍ مع تواجد وزيريّ دفاع قطر وتركيا طار بعدها إلى أبو ظبي، وأطلق تصريحات حذّر فيها من انفجارٍ وشيكٍ للمُواجهات العسكريّة بين الطّرفين المُتخاصِمين.
أمّا الرواية الثالثة فتقول إنّ انتشار فيروس الكورونا بشكلٍ مُرعبٍ في كلّ أنحاء ليبيا وخُروجه عن السّيطرة دفع المُتحاربين بالسّعي بوضع السّلاح جانبًا، والتّركيز على مُواجهته وتقليص خسائره إذا لم يتأتّى السّيطرة عليه كُلِّيًّا.
جميع الأطراف الإقليميّة والدوليّة رحّبت بهذا الاتّفاق، ابتداءً من مِصر ومُرورًا بالجزائر وتركيا وانتهاءً بالأمم المتحدة ومجلس التعاون الخليجي والجامعة العربيّة، ولكنّ هُناك نقاط خلافيّة رئيسيّة برزت من بين سُطور البيانين ما زالت تحتاج إلى جُهودٍ كبيرةٍ لتسويتها إذا قُدِّر لهذا الاتّفاق أنْ يُطلَق على الأرض.
الأولى: بيان السيّد عقيلة صالح تحدّث عن تحويل سرت إلى مدينةٍ منزوعةِ السّلاح ومقرّه للمجلس الرئاسي الجديد، ولم يتطرّق إلى نزع سلاح الجفرة وقاعدتها الجويّة الاستراتيجيّة حسب أحاديث حُكومة الوفاق والمتحدّثين باسمها الذين لا يُريدون فيما يبدو التخلّي عن طرابلس التي يُسيطرون عليها كعاصمةٍ للبِلاد ولو مُؤقّتًا.
الثّانية: مسألة الانتخابات وموعدها، فالسيّد فايز السراج يُريدها رئاسيّة وبرلمانيّة في مارس المُقبل، لكنّ بيان السيّد صالح يُريد مَجلسًا ثُلاثيًّا رِئاسيًّا، لكن بيان السيّد صالح يُريد مَجلسًا ثُلاثيًّا رِئاسيًّا جديدًا مُؤقّتًا تتمثّل فيه الأقاليم الثلاثيّة (برقة طرابلس وفزان) لفترةٍ انتقاليّة تمتدّ من 18 إلى 24 شهرًا تجري بعدها الانتِخابات.
الثّالثة: مسألة عوائد النفط وكيفيّة اقتسامها، أو التصرّف بها، والجهة المُتحكّمة بالآبار والموانئ النفطيّة وحمايتها، صحيح أنّه جرى الاتّفاق على وضع العوائد في مصرف ليبيا الخارجي وليس في المصرف المركزي (تُسيطر عليه حكومة الوفاق) على أن يتم تجميد هذه العوائد حتى يتم تشكيل حكومة تُمثّل الجميع، ولكنّ الصّحيح أيضًا أنّ مسألة سيطرة الشّركة الوطنيّة الليبيّة على آبار النّفط وموانئه وإدارة الإنتاج ما زالت غامضةً في ظِل سيطرة قوّات حفتر على هذه الآبار واستِمرار الخِلاف حول سحبها.
الرّابعة: موقف الجنرال خليفة حفتر قائد “الجيش الوطني الليبي” ما زال غير واضح حتى كتابة هذه السّطور، فلم يصدر عنه أيّ تأييد أو مُعارضة للاتّفاق، ولم يتّضح ما إذا كان السيّد صالح يتحدّث باسمه، أو يملك تفويضًا في هذا الصّدد.
الخامسة: من هي الجهة التي ستُشرف على الانتخابات في حال إجرائها، وهل ستلتزم جميع القِوى المُتورّطة في النّزاع اللّيبي بقرار سحب القوّات المُرتزقة وكيف؟ وهل سيعود مُرتزقة شركة “فاغنر” الروسيّة إلى موسكو؟ وأين سيعود أكثر من 17 ألف “جهادي” وآلاف من قوّات جنجاويد السودانيّة والتشاديّة جلبهم الأتراك من سورية إلى أنقرة أم إلى إدلب ومتى وكيف؟
لا نُجادل مُطلقًا بأنّ الأجواء المُحيطة بهذا الاتّفاق إيجابيّة، وحجم التّرحيب الدوليّ والإقليميّ به كبير، مثلما لا نُجادل أيضًا أنّ الأمر يحتاج إلى وَقتٍ وجُهدٍ كبيرين للتّقريب بين وجهات النّظر حوله، ولكن يظل من المُحتّم القول إنّ جميع الأطراف المُتصارعة على الأرض الليبيّة والفصائل التّابعة لها، تبدو مُنهَكةً ولا تُريد الدّخول في مُواجهةٍ عسكريّةٍ ستكون مُكلفةً جدًّا ماديًّا وبشريًّا وغير مضمون النّتائج في الوقت نفسه، وهذا ما يُمكن أن يَصُب في مصلحة إنجاح هذه الخطوة.
لا نَستبعِد أن يكون هذا الاتّفاق الذّريعة، أو الأرضيّة لتحقيق تقارب بين هذه الأطراف، فترحيب السيّد فتحي باشاغا، وزير داخليّة الوفاق ورجل مصراته القويّ به، وإعرابه عن استِعداد حُكومته تطوير عُلاقاتها مع “مِصر” إلى جانب قطر وأمريكا وتركيا، وشُكر السيّد السراج للرئيس السيسي والتّرحيب بدوره في التوصّل إلى الاتّفاق وإشادة الأخير (أيّ السيسي) به، كلّها مُؤشّرات تبدو إيجابيّةً وتَعكِس رغبةً في الحِوار وصولاً للحلّ السلميّ.
الشعب الليبي الذي دفع ويدفع ثمنًا باهظًا، وعلى مدى عشر سنوات من التّيه والمُعاناة، يستحقّ الالتِفاف إلى مصالحه ورغبته في أمن بلاده واستقرارها، والتنعّم بثرواته والعيش في ظلّ دولةٍ مُوحّدةٍ تُوفّر له الحدّ الأدنى من الخدمات والمطالب الأساسيّة، ولهذا نأمل لهذا الاتّفاق أن ينجح، مثلما نأمل أن تضع الأطراف المُتصارعة على الأرض مصالح هذا الشّعب اللّيبي المُغيّب فوق كُل الاعتبارات الأُخرى، وأبرزها التّقاتل على المال والنّفوذ، والسّقوط في مِصيَدة الأطراف الخارجيّة وطُموحاتها في سرقة الثّروات النفطيّة والغازيّة الليبيّة، ونحنُ هُنا لا نستثني أحدًا.
صحيفة رأي اليوم الألكترونية