ما وراء الأزمة الروسية ــ الأوكرانية في بحر آزوف
هل تلجأ واشنطن لقرع طبول الحرب ضد روسيا والصين أيضا؟ سؤال يتردد على ألسنة العديد من السياسيين والمراقبين على السواء. قبل المرور على إجابة مقنعة، ينبغي النظر إلى ما تعده الولايات المتحدة من توسع وتدخل عسكري في دول اوروبا الشرقية السابقة، والأعضاء بحلف الناتو لتطوير المطارات العسكرية وتسهيلات أخرى.
حادث احتجاز السفن الأوكرانية في مضيق كيرتش ببحر آزوف، تزامن مع تقارب انعقاد قمة روسية ــ أميركية، على هامش مؤتمر الدول الصناعية العشرين، في الأرجنتين، وعزوف الرئيس ترامب عن نيته لقاء الرئيس بوتين، وحتى اللحظات الأخيرة بعد انتهاء “الاشتباك” العسكري المحدود في مياه مضيق كيرتش.
لكن المؤسسة الأميركية الحاكمة بأركانها المتعددة جاهزة للضغط مرة أخرى على الرئيس ترامب وتفرض عليه تراجعاً في موقفه الراغب باللقاء، وأن لم يكن بشكل رسمي، كما تقتضيه الديبلوماسية، بل فضل إعلان التراجع عبر تغريدة له.
في هذا الأمر ترى موسكو مضيق كيرتش جزءاً من المياه الإقليمية لروسيا بنت عليه موسكو جسراً عملاقاً عقب “عودة” شبه جزيرة القرم للاتحاد الروسي، وتسمح للقطع البحرية والملاحة “بالعبور البريء” فيه شريطة عدم انتهاك القوانين والإجراءات السارية وإبلاغ السلطات الروسية المعنية بخط السير وطبيعة الحمولة.
على النقيض من ذلك لا تعترف أوكرانيا بسيادة موسكو على شبه جزيرة القرم وكذلك الأمر مع شواطئها وموانئها البحرية، بيد أنها تضطر للتعامل وفق النظم الروسية الناظمة للملاحة. وأصدرت حكومتها أمراً لـثلاثة زوارق “سفينتين صغيرتين مزودتين بمدفعية وسفينة سحب” على متنهما 24 بحاراً بدخول مياه المضيق دون إبلاغ السلطات الروسية التي تصدت لها واشتبكت معها وتعرض ثلاثة منهم لجراح متوسطة، واحتجزت طاقم البحارة بالكامل. أوكرانيا ادعت أن سفنها “لم ترتكب أي مخالفة” واتهمت روسيا بالعدوان العسكري وطالبت المجتمع الدولي بالتحرك العاجل لمعاقبتها.
تنوعت ردود الأفعال الدولية عند هذا المنعطف بين إدانة صريحة لروسيا وتحذيرها من تفاقم الأزمة إلى دعوات التروي الصادرة عن ألمانيا.
الولايات المتحدة اعتبرت الإجراءات الروسية “انتهاكاً صارخاً لسيادة الأراضي الأوكرانية ويتعين على المجتمع الدولي التنديد به”، من على منبر الأمم المتحدة. وأصدر وزير الخارجية مايك بومبيو بياناً شديد اللهجة للتنديد بالحادث، لم يقرنه بوعود انتقامية من روسيا. أما الرئيس ترامب فقد التزم الليونة قائلاً للصحافيين يقبل مغادرته للأرجنتين “لا نحبذ ما جرى في كلا الاتجاهين .. ونأمل أن يتم احتواء المسألة”.
أما دول الاتحاد الأوروبي فقد طالبت الجانبين، الروسي والأوكراني، ممارسة أقصى درجات ضبط النفس للحيلولة دون تصعيد الموقف، وإعادة فتح المضيق واستئناف الملاحة البحرية بشكل اعتيادي.
وأبلغت مصادر عسكرية في حلف الناتو وكالات الأنباء الغربية أن الرئيس الأوكراني بيتر بوروشينكو، الذي سعى جاهداً دون نتيجة لإقناع واشنطن إنشاء قاعدة عسكرية لها على الأراضي الأوكرانية؛ رغبة منه في توريط الولايات المتحدة عسكرياً، من ناحية، ولحاجة قواته العسكرية لمساعدة ومهنية حلف الناتو في أي مواجهة محتملة مع روسيا.
في تعليقها بثت شبكة سي أن أن الأميركية للأنباء خبراً حول وضع القوات الأوكرانية بأنه “مثير للشفقة وهي غير مستعدة لخوض معركة مع روسيا في عرض البحر .. أما القوات البحرية الروسية فلن تواجه سوى مقاومة رمزية” بالقرب من مياه بحر آزوف. بدون مشاركة فعالة من حلف الناتو إلى جانب أوكرانيا في أي نزاع قد ينشب ستكون القوات الروسية قادرة على إلحاق هزيمة عسكرية سريعة بالقوات الأوكرانية إذ لا يوجد مجال للمقارنة بين قوة البلدين.
روسيا، من جانبها، أعلنت عن خططها لنشر مزيد من بطاريات الدفاع الجوي المتطورة، إس-400، على أراضي شبه جزيرة القرم كخطوة احتياطية. وأوضحت القيادة العسكرية الجنوبية للاتحاد الروسي أن طواقمها من الأخصائيين والمهنيين منكبون على تجهيز المعدات ونقلها “عبر السكك الحديدية إلى قاعدة ثابتة .. وستدخل المنظومة الجديدة الخدمة العملياتية في المستقبل القريب لحماية الأجواء الروسية”؛ تعززها سفينة حربية ترابط في مياه بحر آزوف.
وسارعت روسيا لاحتواء الموقف بفتح المضيق واستمرار احتجازها للبحارة الاوكرانيين، مما “حفز طاقم الأمن القومي” في واشنطن الضغط على الرئيس ترامب لإلغاء لقائه المقرر مع الرئيس الروسي على هامش القمة.
الملفت في الأزمة المصطنعة، كما يعتقد المراقبون، ما أوضحته الحكومة الأوكرانية في بيان نشرته يومية واشنطن بوست، 27 نوفمبر، بإعلانها الأحكام العرفية في البلاد؛ واعتراف جهاز الأمن الاوكراني، اليوم عينه، بوجود عدد من ضباط استخباراته بين طواقم البحارة في مهمة “عمليات مكافحة التجسس لصالح سلاح البحرية الاوكراني”.
يشار إلى أن ذاك الجهاز، SBU – State Security Service، اعترف سابقاً بمسؤوليته عن افتعال حادث مقتل الصحافي الروسي آركادي بابشينكو، في كييف، بغية الكشف عن مخطط اغتيالات روسي (30 أيار/مايو 2018)، ثبت لاحقا أنه حي يرزق. وجاء في تعليق لشبكة (بي بي سي) البريطانية أن مدير الجهاز الاوكراني، فاسيل هريتساك، أوضح لها أن عملية لاصطياد قتلة مأجورين من قبل روسيا قد تم اعدادها؛ استحق على أثرها المطاردة بالسخرية وعدم الكفاءة.
في سنوات احتضار الاتحاد السوفياتي قامت واشنطن بعملية “بهلوانية” مشابهة لعملية مضيق كيرتش، وارسلت عام 1988 سفينتين حربيتين على متنهما معدات تجسس دخلتا المياه الإقليمية السوفياتية بالقرب من شبه جزيرة القرم؛ صدمتهما البحرية السوفياتية وغادرتا على الفور “قبل تصعيد الأمر.”
تلك الإشارة كانت ضرورية لسبر أغوار ما يعد من خطط عدوانية ضد روسيا، بطولة الرئيس الاوكراني الذي “لا يحسن قراءة الخرائط الاستراتيجية والمتغيرات الدولية،” وأشد ما يراهن عليه وهو مقبل على جولة انتخابات قاسية هو الظهور بمظهر “رئيس حرب” جدير بإعادة انتخابه.
بحسب استطلاعات الرأي الأوكرانية تتراجح شعبيته بمعدل لا يتعدة 10%، يفصله عن منافسيْه الآخريْن مسافة بعيدة. وهذا ما يعزز الهدف من قراراه بفرض الأحكام العرفية في هذا الظرف المفصلي بالذات، والتحكم التام بمجريات الانتخابات وطواقم الإشراف عليها.
منافسته الأقوى في الانتخابات ورئيسة الوزراء السابقة، يوليا تيموشينكو، حذرت في تصريح لها في تموز/يوليو 2018 من إعداد بوروشينكو “خطة بالغة الخطورة لإعاقة سير الانتخابات عبر تصعيد وتيرة الحرب في (إقليم) دونباس وفرض الأحكام العرفية في اوكرانيا.”
ففرض الأحكام العرفية، وفق دستور البلاد، يستدعي تصويت البرلمان عليه وتبنيه. بيد أن الحضور البارز لأحزاب مناوئة لبوروشينكو في المجلس أفشلت “بعض” مخططه، إذ نال الموافقة على “فرض أحكام عرفية مصغر” مدّته 30 يوماً بدلاً من 60 يوم قابلة للتجديد.
قد يلجأ بوروشينكو للالتفاف على ضوابط الدستور وبشكل خاص اجراء الانتخابات في 31 آذار/مارس المقبل كما هو مقرر، وهو الأمر المفضل عنده للبقاء على رأس السلطة، عبر افتعال نشوب حرب ولو محدودة في شرقي البلاد، منطقة دونيتسك، أو السعي لاستعادة مطار دونيتسك، “أو الاشتباك مع روسيا مباشرة،” لا سيما وأنه يتمتع بدعم وتأييد عدد من المؤسسات الأميركية النافذة في صنع القرار السياسي الطامعة في تحدي موسكو “بشكل متدرج.”
مركز الأبحاث المؤيد لحلف الناتو والحكومة البريطانية، أتلانتيك كاونسيل، والبعض يقول أن تمويله يأتي من ميزانية الحلف وبعض الدعم المالي من دول الخليج العربي، حث السلطات الأوكرانية، 26 نوفمبر الجاري، على “دعوة الولايات المتحدة وحلف الناتو لإرسال اسطول من السفن الحربية لزبارة (ميناء) ماريوبول” المدينة الرئيسة على شاطيء بحر آزوف “وتحدي روسيا على إطلاقها النار أو أعاقة قطع الحلف من زيارة الموانيء الاوكرانية.”
ما غاب عن “خبراء” المعهد قراءة صحيحة لجغرافية المنطقة. الوصول إلى ميناء ماريوبول يستدعي عبور مياه مضيق كيرتش، وهو ضيّق على أي حال لا يتعدى عمق مياهه في تلك المنطقة 8 أمتار، مما يعيق أي عملية للمناورة العسكرية أن تطلب الأمر.
هل تلجأ واشنطن لقرع طبول الحرب ضد روسيا والصين أيضا؟ سؤال يتردد على ألسنة العديد من السياسيين والمراقبين على السواء. قبل المرور على إجابة مقنعة، ينبغي النظر إلى ما تعده الولايات المتحدة من توسع وتدخل عسكري في دول اوروبا الشرقية السابقة، والأعضاء بحلف الناتو لتطوير المطارات العسكرية وتسهيلات أخرى.
تبلغ حصة هنغاريا من “المساعدات” الأميركية نحو 50 مليون دولار؛ 60 مليون دولار لتحديث قاعدتين جويتين في رومانيا؛ 100 مليون لتطوير قاعدتين عسكريتين في سلوفاكيا، بالاضافة لمبالغ طائلة أخرى لدول المنطقة.
قائد القوات البحرية الأميركية في اوروبا، الأدميرال جيمس فوغو، أوضح عن خطط بلاده المقبلة في اوروبا أمام حشد في المعهد البحري للولايات المتحدة، الشهر الماضي، أنه “من الضروري لنا توفر تواجد بحري واسع في اوروبا يفوق ما كان لدينا في العقدين أو الثلاثة الماضيين.” واسترشد الأدميرال بمجموعة السفن البحرية المشتركة والعاملة بالطاقة النووية “هاري أس ترومان و ايوا جيما” في مياه المحيط الهاديء بالقرب من الصين والتي من شأنها “إرسال رسالة شديدة القوة بأن الولايات المتحدة لها الحرية بالعمل في اي مكان، أما على انفراد أو بالتعاون من شركائنا وحلفائنا في حلف الناتو.”
لعض العقلاء في واشنطن يفضلون أن يلتقي الرئيسان الأميركي والروسي في بيونيس آيريس، ولو لمشاورات قصيرة، دون الالتفات إلى التخبط الديبلوماسي الأميركي، لا سيما وأن احداث اوكرانيا لوحدها تستدعي تبادل الآراء وعدم الانجرار لحرب هما في غنى عنها.
الرئيس الروسي من جانبه يراقب بهدوء أي تغيرات أو ايماءات قد تصدر عن المؤسسة الأميركية أو الرئيس ترامب، أو كليهما معاً. تفاعل الرئيس ترامب مع مسألة اوكرانيا سيحسم لدى نظيره الروسي ما تخبئه واشنطن من خطط ونوايا مقبلة، سواء الذهاب بالتصعيد، أو تفادي الحديث بمضيق كيرتش، أو ربما إرساء أرضية لتفاهمات مقبلة في الساحة السورية.
أما السلاح الأميركي دائم الجهوزية ضد روسيا، لتطبيق عقوبات اقتصادية، فلم يعد له ذات المفاعيل القاسية كما في مراحل سابقة عقب إعلان روسيا عن تخليها تدريجيا عن التعامل المصرفي بالدولار الأميركي؛ وتعويلها على تعميق الخلافات الأوروبية.
الميادين نت