ما يتّفق عليه ترامب وكلينتون

في العام 2004، اختار مستشارو جون كيري (وزير خارجية أوباما حالياً) في حملته الانتخابية التي نافس بها بوش الابن للفوز بالرئاسة الأميركية الكلمات التالية شعاراً: «فلتكن أميركا أميركا مرّة أخرى/ فلتكن الحلم الذي كانته». وبدا الاختيار ذكيّاً أوّل الأمر، إذ إنه فعّال في تذكير الناخبين بضرورة إعادة البلاد إلى «السكة الصحيحة» التي أخرجها منها حكم «الجمهوريين» بقيادة بوش، بعد ثماني سنوات من إدارة كلينتون «الديموقراطية».

لكن الفضيحة كانت أن الذين اختاروا الشعار أساءوا قراءة القصيدة التي استُلّ منها، أو لعلهم لم يكملوا قراءتها. وهي قصيدة نشرها الشاعر الأميركي الأسود، لانغستون هيوز (1902 – 1967) العام 1938. ولو كانوا أكملوا قراءتها لاكتشفوا أنها لا تتغنّى بحلم أميركي تحقق في ما مضى ووجب إحياؤه، بل إن الشاعر يقول فيها إنه لا يعرف أميركا، كما كان (وما زال) يتمّ تصويرها والتغنّي بها في الخطاب السائد، حيث يكرّر «أميركا لم تكن أبداً أميركا بالنسبة لي». ويُدْخل هيوز في قصيدته أصوات الذين تم إقصاؤهم من الحلم الأميركي وإسكاتهم عبر العصور، ليهتفوا ويجادلوا أولئك الذين يصرّون على ترديد الأسطورة القوميّة. يتحدّثون، واحداً بعد الآخر، في القصيدة: «أنا الأبيض الفقير، الذي خُدِعَ وأزيح جانباً. أنا الزنجي الذي يحمل ندوب العبودية. أنا الرجل الأحمر الذي طُرد من أرضه. أنا المهاجر الذي يتشبّْث بالأمل الذي أبحث عنه، ولا أجد إلا الخطة الغبيّة القديمة: التكالب الشرس والقوي يسحق الضعيف».

سارع اليمينيّون يومها إلى انتقاد حملة كيري علـى هذا الاختيار، وذكّر بعضهم بميول لانغستون هيوز الشيوعيّة (لم ينتم إلى «الحزب الشيوعي» الأميركي، لكنه نشر في مطبوعات شيوعيّة وزار الاتّحاد السوفياتي وتم استدعاؤه من قبل لجنة السيناتور مكارثي أمام الكونغرس العام 1953، وابتعد بعدها عن الشيوعيّين واستثنى لاحقاً أشعاره الراديكالية من أعماله المختارة).

لو كان هيوز حيّاً اليوم لوجد أن معظم أصوات المهمّشين وهمومهم في قصيدته تلك وجدت لها صدى في حملة بيرني ساندزر الاشتراكي وفي خطابه السياسي. ومهما كان لدى اليسار من مآخذ عليها وعلى بقاء ساندرز تحت خيمة «الحزب الديموقراطي»، إلا أنّ حركته نجحت في استقطاب واستيعاب قطاعات واسعة من الشباب واليساريين وإشراكهم في العمل السياسي. كما ركّزت جديّاً على قضايا اللامساواة الاقتصادية وجشع «وال ستريت» والعنصرية المؤسسيّة وحقوق الأقليّات والمهاجرين. ولو كان هيوز حيّاً اليوم لرأى أيضاً أن ترامپ نجح في توظيف الأسطورة القومية القديمة لاستدراج الكثير من البيض الفقراء الذين يؤمنون بما يردّده، «فلنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، ونجح في استثمار غضبهم وتصويبه نحو «الزنجي» و «المهاجر» الذين يتّهمهم بسرقة «عظمة» أميركا.

برغم الاختلاف الكبير بين ترامب وبين كلينتون، فاللافت أنّهما يتّفقان على جوهر الأسطورة القوميّة، وهو عظمة أميركا. لقد كان رد كل من أوباما وكلينتون على شعار ترامپ هو أن «أميركا كانت دائماً عظيمة» وأنها «لم تتوقف عن أن تكون عظيمة». ليس مستغرباً إذاً أن يحجم حوالي ٤٠ في المئة من الناخبين عن التصويت في الانتخابات الرئاسية. فالهوة بين أميركا الأسطورة وبين أميركا التي يعيشونها تزداد عمقاً ولا أحد يتحدّث باسمهم. أميركا، كما قال هيوز في قصيدته، لم تكن أبداً «أميركا» بالنسبة لهم.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى