متحف درويش تحفة يحج إليها الفلسطينيون ويختصمون عليها

تقديراً للمكانة التي مثلها الراحل محمود درويش في حركة الشعر والنثر الفلسطينية والعربية والعالمية، أنشئت العام 2008 مؤسسة محمود درويش كمؤسسة وطنية، تعزيزاً لأفكار محمود درويش وقيمه العقلانية والتنويرية والوطنية التي عبّر عنها في مواقفه العملية وفي مجمل إبداعاته. فالشاعر الراحل، كرّس حياته وجهوده الفكرية والإبداعية لنصرة قضيته العادلة في الكفاح من أجل الحرية والاستقلال الوطني باعتبارها قضية كونية تعبر عن أوجاع الشعوب ومعاناتهم.

فعلى رابية تطل على مدينة القدس، شُيّد متحف درويش وضريحه في لوحة معمارية تمزج التراث بالحداثة، وتعكس جمالية المكان الفلسطيني وخصوصيته. وإلى جانب الضريح «مسرح وقاعة الجليل»، وهي قاعة مخصصة للأنشطة والفعاليات الفنيّة والثقافية والسينمائية. وفي الجهة المقابلة لقاعة المتحف، وهو «المتحف الأول من نوعه في فلسطين» كما يقول مديره سامح خضر الذي يضيف بأنه «يضم مقتنيات الشاعر وأشياءه الخاصة، ومكتبه، وفنجان قهوته ومخطوطاته، والنص الأصلي لوثيقة الاستقلال كما صاغها بخط يده، وأعماله المترجمة إلى لغات العالم، وجوائزه وأوسمته المعلقة على جدار من طين قريته البروة، وأعداد مجلة الكرمل، ودواوينه وأشعاره منذ أن كان في حيفا».

خصومات

في الفترة الأخيرة دخل المتحف في إشكالية وتصفية حسابات وخصومات سياسية إثر قرار من «الرئاسة الفلسطينية» بإبدال مجلس الإدارة بمجلس آخر، ما أثار احتجاجاً بين النُخب الثقافية، التي اعتبرت أن القرار يضرّ بالحالة الثقافية الفلسطينية وبمكانة الشاعر الراحل الذي التف الشعب حوله وحول إنجازه الشعري والإبداعي.

تنفي الكاتبة ليانة بدر (عضو مجلس إدارة المؤسسة) حدوث هذه الخصومات بسبب تغيير مجلس الإدارة إذ ترى أن المتحف «لم يعرف أي خصومات سياسية طوال السنوات السبع الماضية. وآخر مجلس أمناء تشكل كهيئة وطنية مستقلة منذ نيسان الماضي ويضم مثقفين بارزين في كل حقول الأدب والفن في عموم الوطن» .

وتضيف بدر أن للمتحف نشاطاً متواصلاً ومنهجياً سواء مع آلاف الطلبة والزوار أو الندوات المفتوحة للمواهب الشابة، وكذلك دعوة بعض المفكرين والأدباء العرب الى ندوات في المتحف تحت برنامج في حضرة درويش وكذلك جائزة محمود درويش السنوية تحت إشراف لجنة مستقلة معظمها أدباء ونقاد عرب.

وتتابع بدر بالقول إن إقحام السياسة كان عبر تغيير هيئة الأمناء قبل شهرين لإقصاء (ياسر عبد ربه) تحديداً ومعه ثلثا أعضاء المجلس من المثقفين واستبدالهم بصف من رجال الأعمال والسياسيين وموظفي السلطة. ونوهت إلى أنه يجب التدقيق في التفاصيل: «هذا ما جعل 850 مثقفاً وشخصية وطنية يطلبون من الرئاسة الفلسطينية عدم التدخل في المؤسسة والمتحف. ومجلس الأمناء الجديد المشكل حديثاً يمثل عدم الاستجابة الى هذا النداء، محمود درويش كان فوق الخلافات وميراثه دليل على قبول الرأي والرأي الآخر والتنوع والتعددية . وما يحدث الأن هو محاولة لإلغاء ذلك كله في السياسة والثقافة».

الكمّ والنوع

المتحف الذي تحول الى قبلة للعشاق ومحبي الشاعر الراحل درويش أصبح رمزاً ومَعْلماً لا يمكن تجاوزه في رام الله، بل هو علامة فارقة وحاضرة تجمع وتلم شمل الجميع من الداخل الفلسطيني والضفة وغزة والشتات.. إلا أنه وبحسب المتابعين وقع في ظاهرة الكم في النشاط الثقافي وليس النوعي، وهذا ما يفسر رد مدير المتحف خضر على هذه الملاحظة «عدد كبير من النشاطات الثقافية المختلفة في مدينة رام الله متشابه في الدور، والدور المختلف ليس منافساً بل هو تكاملي. المتحف يغطي بعض القصور في دور بعض المؤسسات الثقافية، وانطلاقاً من هذه المسؤولية يفتح المتحف الباب لأكثر من نوع إبداعي وفني وأدبي، لأن بعض المؤسسات الثقافية ليست لديها أماكن ثابتة. فالمتحف مكان مجهز وواسع لإقامة هذه الأنشطة والفعاليات» ويؤكد أن المتحف لا يحاول الاستحواذ على الأماكن والمؤسسات الثقافية وهو مستعد لأي تعاون مع أي مؤسسة خاصة، ويشهد للمتحف تعاونه مع العديد من المؤسسات الفنية والثقافية، وقوة المتحف بتعدد المؤسسات الثقافية القوية.

الكاتب والمحلل السياسي خليل شاهين، له رأي مختلف، بالمتحف وأنشطته: «عموماً أنا لا أحضر الفعاليات ومن الصعب الإدلاء بموقف حول أنشطة لا أتابعها. لدي موقف يتعلق بخلط الحابل بالنابل بشأن أمسيات التوقيع على الإصدارات التي أرى أنها تروج أحياناً للإسفاف بتوفير منصة تحمل اسم محمود درويش لصنع نجوم مزورين من مدّعي نظم الشعر وكتابة القصة والرواية، ويتم توفير منبر لهم على قدم المساواة مع أدباء مبدعين بحق. ولذلك، لا أشارك في الفعاليات لأني لا أريد أن أكون جزءاً من تزييف الإبداع والإسفاف».

وتابع شاهين رصده بالقول «في المقابل، يمكن للمتحف أن يركز فعالياته على إبراز المبدعين الشباب وإثارة نقاش عميق حول أزمة الفكر والثقافة في الشرط الاستعماري الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، وتسليط الضوء على النتاج الثقافي الفلسطيني في الشتات، من خلال ندوات وحلقات نقاش ورعاية مبادرات في مختلف مجالات الثقافة».

من متحفه يطل درويش بحضوره المميز وتوقيعه وصوته الذي يصدح في أرجاء المكان عبر شاشة عرض كبيرة، وتزين مقاطع من قصائده جدران المتحف، تنتصر كلمته ويتجدد بقاؤه كما قال في جداريته: «هزمتك يا موت الفنون جميعها». الشاعر عامر بدران يرى أن المتحف ساهم في خلق حالة أدبية، بمعنى إيجاد جمهور مثابر على حضور الفعاليات بأشكالها وقال في هذا الخصوص «هذا يحسب له وخاصة إذا تمت مقارنته بمراكز ثقافية أخرى قربها من وسط البلد يعمل لمصلحتها. يحسب للمتحف وإدارته أيضاً المساهمة في تعريف الجمهور الفلسطيني على أسماء عربية ما كان ليتاح له معرفتها. من جهة أخرى فإن الارتجال في انتقاء الأسماء وإتاحة المنصة لكل من أصدر كتاباً من دون التمحيص بمنتجه وقراءته وتقييمه قد أساء لهذه الحالة التي خلقها المتحف».

وأضاف الشاعر بدران «أعتقد، وهذا رأي شخصي في النهاية، أن التركيز على النوعية لا يحدث إن لم تتشكل لجنة ما للاختيارات، مع التقدير الكبير لمدير المتحف الصديق سامح خضر كإداري مهم ومثابر، لكنه بحاجة لمستشارين على اطلاع أكبر بالمشهد الثقافي العربي».

تحفة

المخرج المسرحي سامح حجازي أكد أن الفعل الثقافي الفلسطيني تأكد من خلال تكريس الثقافة التي هي اسلوب حياة متطور وفهم مشترك للمجتمع وعمل دائب من أجل تبديل الواقع مهما كانت الأثمان، وقال في هذا الخصوص «الثقافة لا يمكنها أن ترتبط بأي مؤسسة رسمية ولا بأي سلطة دينية ولا بأي أجهزة أكاديمية وإعلامية. الثقافة هي أعلى درجات التعبير عن الطموح من أجل الارتقاء بالإنسان والمجتمع وكل ما لهما نحو الأحسن.. أما الأنشطة والفعاليات فلها من القيمة الفكرية ما يذكر وبصوت عال».

يعتبر الشاعر زهير أبو شايب متحف محمود درويش هو تحفة بحدّ ذاته، وهذا ينبغي أن يكون مصدر اعتزاز لكلّ من يحمل اسم فلسطين. لقد تحوّل وطن المبدع هنا إلى وطنٍ مبدعٍ يعي أهمّيّة شاعره ويعبّر عن ذلك الوعي بمثل هذا التعبير الراقي. لقد قلت «حين زرت المتحف لأوّل مرّة، إنّ محمود درويش شاعر محظوظ لأنّه ابن فلسطين، فما من شاعر عربيّ آخر حظي بمثل هذا المتحف الراقي الّذي قدّمته فلسطين، دون إبطاء، لشاعرها العظيم».

وأضاف أبو شايب أعلم أنّ ثمّة ثغرات ينبغي استكمالها وتجميلها لا تشويهها وتمزيقها، وبدلاً من أن تصبح مؤسّسة محمود درويش ومتحفه وجائزته موضوعاً لصراع بائس يسيء لاسم فلسطين ولاسم شاعرها، فإنّه كان ينبغي العمل على تحييدها وحفظها من خطر تلك التجاذبات الّتي أخشى أن تنتهي إلى تمزيق تلك الصورة الساطعة الّتي تليق بفلسطين وبشاعرها.

ويعمل المتحف منذ إنشائه على اعتماد الشراكة ونشر الثقافة والحوار من خلال إقامة الأمسيات والندوات في المدن والمحافظات الفلسطينية كما يؤكد مدير المتحف خضر: «يتوزع نشاط المتحف بين نشاطات عن الكتب لكل ما يتم إصداره من أعمال أدبية ومناقشة الكتب وهي فرصة لتوفير إطارها للاحتكاك وتسليط الضوء على الأصوات الجديدة»، اما النشاط الآخر فهو برنامج الزيارات الدولية من خلال دعوة أهم الكتاب والمفكرين لزيارة فلسطين، قال خضر «نريد ان نقدم الوجه الآخر لفلسطين من خلال استضافة عدد من الكتاب العرب ومنهم الصغير أولاد احمد والمنصف الوهايبي من تونس، وسعود السنعوسي وليلى العثمان من الكويت، وإبراهيم نصر الله والطاهر رياض ورزان إبراهيم من الاردن، وواسيني الأعرج من الجزائر».

واعتبر خضر زيارات الكتّاب العرب والفلسطينيين في الشتات أنها فرصة لالتقاء الجمهور الفلسطيني بكتّابهم المفضلين، «حاولنا من خلال برنامج الشعراء والكتّاب الشباب ان نمنح الفرصة للكتّاب الشباب اللاجئين في الشتات لزيارة فلسطين والالتقاء بأهلهم وتقديم تجاربهم الإبداعية».

لم يتوقف المتحف عن تقديم دور ثقافي تفاعلي داخل فلسطين بل إن سمعة ومكانة الراحل درويش العالمية مكنت إدارة المتحف من لعب دور دولي من حيث التواصل والشراكة كما يقول خضر، «وجود المتحف على الساحة الدولية له دور ثقافي خارجي مهم من خلال المؤسسات الدولية والأوروبية لتأسيس لشراكة عنوانها مؤسسة محمود درويش لمنح عدد من الأدباء الالتقاء مع نظرائهم في العالم، وكانت هناك تجربة مع مركز الشعر الدولي في مرسيليا حيث استضفنا عدداً من الشعراء من فرنسا التقوا مع شعراء فلسطينيين».

يمثل المتحف مرجعية وطنية مهمة ولافتة لفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وقد تطلب الأمر بالنسبة لادارة المتحف الى تفعيل دوره وتعاونه مع مؤسسات وشخصيات ثقافية وإبداعية كما يقول خضر، «نسعى لمحاولة الانفتاح على المؤسسات الثقافية في الداخل الفلسطيني من خلال التواصل مع الجمهور الفلسطيني عبر العديد من الأنشطة والأمسيات، وبذلك استطعنا أن نشبك المشهد الثقافي الفلسطيني من أجل آفاق جديدة».

استحدث المتحف مؤخراً جديداً للتفاعل الجماهيري الثقافي من خلال إقامة ورشات الكتابة الإبداعية والتي تستهدف الجيل الجديد من المواهب «إرساء شراكة مع مؤسسات تربوية في طولكرم والقدس وإقامة ورشات كتابة إبداعية وفنون، ومحاولة فتح آفاق غير منهجية تطوعية والعمل بجهد ذاتي وخلق عالم جديد من خلال الورشات الإبداعية واكتشاف المواهب».

حديقة البروة تحولت الى مكان لقاء الزوار والمريدين لشعر درويش، بل إن الكثير من العرسان يوثقون زواجهم من خلال حضورهم والتقاط الصور التذكارية قرب الضريح وفي الحديقة ومرافقها، ويشير مدير عام المتحف خضر حول إنسانية المواقف التي تركت أثراً في متحف درويش إلى حادثة كان على اطلاع عليها، أن أحد الشبان من مدينة القدس مرتبط بفتاة تحب درويش دعاها ذات يوم الى المتحف وطلب يدها للزواج «زيارات العرسان والتقاط الصورة التذكارية عند ضريح محمود درويش أصبحت تقليداً عاماً ومحبباً عند الناس فتحول المتحف ومرافقه لمزار، من خلال المقتنيات الموجودة في المتحف يمكن ان تقدم نموذجاً للإنسان الفلسطيني، حيث تم توظيف معاناة وتجربة محمود درويش في سياق القضية الفلسطينية».

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى