متوالية التشفي والحزن في سوريا

ليست تلك سوى إحدى علامات المرض الذي أصاب السوريين، وأحالهم جهاتٍ وفصائل متناحرة، تتلطى لكل حادثة من الحوادث التي تحصل هنا أو هناك لتتخذها أداةً تعبّر بها عن مدى كراهيتها للجهة الأخرى. لكن، وللمفارقة، لا يعطي الوقت وتتالي الحوادث، متسعاً لجهة ما للتشفي والشماتة بالجهة المقابلة حتى تستجد أوضاع جديدة تقلب الأدوار فيصيب الحزن من كان متشفياً منذ لحظات، ليتلبس الطرف الآخر ثوب المتشفي بعدما كان حزيناً منذ برهةٍ أو ساعات. وهكذا هي الأمور تجري في سوريا وفق متوالية التشفي والحزن، من دون أن يطرح أحد الطرفين أو كلاهما على نفسه سؤالاً عن جدوى هذا التشفي وعن أكلاف ذلك الحزن.

لا شك أن سنوات الحرب الواقعة في سوريا، والتي ستقارب الخمس، قد أفرزت صنَّاعاً للكراهية، وأوجدت فناً لها ساد بين مناصري طرفي الصراع، من دون أن تعطى الفرصة لطرف عاقل يُسمع صوته وسط هدير المعارك، هذا إذا لم يُستهدف هذا الطرف أو يجري نبذه أينما حل. ولأن الحرب الجارية في سوريا هي بين أبناء البلد الواحد، إذا وضعنا «داعش» ومثيلاتها جانباً، فكان لزاماً من أجل نجاح هذه الصناعة، خلق الأوهام حول الطرف الآخر، وتهويل الوقائع وتعظيم الاختلافات الدينية وحتى المناطقية للوصول إلى مسلّمة أن الآخر خطر عليك، ولا تقوم حياتك إلا بموته. وبدا أن كل ما يرد من جولات كلامية وإعلامية واجتماعات في طور هذا الصراع ليست سوى سبل لتكريس خطاب الكراهية وجعله قاعدة وليس شواذاً.

والغريب في سوريا، أن حادثة قد جلبت الحزن لطرفٍ سرعان ما تتبعها حادثة تصيب الطرف الآخر فتنقلب الأدوار. كما حصل حين وقعت الاعتداءات في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت في تشرين الثاني الماضي، وراح ضحية التفجيرين الانتحاريين عشرات الأبرياء ومئات الجرحى. حيث ساد نوع من التشفي بين صفوف المعارضين للنظام السوري، كون المنطقة تعتبر معقلاً لـ «حزب الله» الذي يُعدّ شريكاً للنظام في الحرب الدائرة في البلاد. ولم تمنع حقيقة أن الضحايا من المدنيين من اتساع مدى هذا التشفي، أو تقلل منه.

ولم يطلْ الأمر كثيراً حتى وقعت هجمات باريس بعد أيام من هجمات بيروت، وأحدثت ضجة، تعرف وسائل الإعلام الغربية كيف تضخمها وتصنع منها الخبر الأول على وسائل الإعلام العالمية كافة، ليسود الحزن والإدانة جو الكوكب لأيام. فانقلبت الآية حينها، ليتشفى المؤيدون للنظام السوري من المعارضين ومن فرنسا، كون حكومتها معارضة للنظام السوري ومن المؤيدين لفكرة تغييره. وبعد حوالي أكثر من شهر تكررت هذه المتوالية، فمع اغتيال سمير القنطار في دمشق في 20 من كانون الأول الماضي أعيد المشهد من جديد شماتة هنا وحزن هناك، ثم مع اغتيال زهران علوش بعد ذلك بأيام أيضاً، إذ حزنَ معارضو النظام وشمت موالوه. فيما نحن اليوم نلحظ مشهداً شبيهاً في مضايا.

ما يحتاجه السوريون هذه الأيام هو ترك المتاريس الافتراضية بداية، حيث يستسهل كل طرف تخوين الطرف الآخر وإطلاق اللعنات والتجييش، بينما هو ربما جالس خارج البلاد لا يحصي القذائف المتساقطة على أهله. ومطلوب في الوقت عينه وقف خطاب الكراهية، علَّ هذه تكون خطوات من الناس العاديين، الذين أصبحوا من دون أن يدروا، جنوداً لنشر هذه الكراهية والرزوح تحت ثقلها وجرائمها.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى