كتب

مجانين، رديئون، ومن الخطر معرفتهم

مجانين، رديئون، ومن الخطر معرفتهم..  كولم توبين، الكاتب الأيرلندي الحائز على العديد من الجوائز، ومؤلف روايات “السيد”، “بروكلين”، والعديد من الكتب النقدية، يقدم لنا هنا دراسة عميقة عن الثقافة، والتاريخ، والأدب الأيرلندي عبر حكاية حيوات ثلاثة رجال هم: ويليام وايلد، جون بتلر ييتس، وجون ستانيسلاوس جويس، والعلاقات المعقدة والمؤثرة التي جمعتهم بأبنائهم الذين أصبحوا ثلاثة من أهم كتّاب الأدب الأيرلندي.

يُعتبر هذا الكتاب الصادر عام 2018 امتداداً لكتاب سابق لتوبين هو “طرق جديدة لتقتل أمك: كتّاب وعائلاتهم” (2013)، الذي كان قد كشف فيه مجموعة من التصرفات المشينة لكتاب مشهورين.

استُخدم تعبير “مجنون، رديء، ومن الخطر معرفته” لأول مرة من قبل الليدي كارولين لامب في وصف اللورد بايرون، بينما يستخدمها توبين هنا لتوصيف آباء أوسكار وايلد، ويليام بتلر ييتس، وجيمس جويس، في بحث مثير للاهتمام مليء بالتبصر والفراسة.

يتبادر إلى الذهن أيضاً أن العنوان ملائم لتوصيف العلاقة الغريبة التي جمعت هؤلاء الأبناء بآبائهم؛ علاقة يُظهرها هذا الكتاب مجنونة، رديئة، وربما يكون خطراً معرفتُها.

يبدأ توبين كتابه بنزهة عبر شوارع دبلين حيث قضى حياته الجامعية ـــ فتىً غرّاً قادماً من الريف ـــ وحيث بلغ هؤلاء الكتاب الثلاثة أشدّهم. يقول توبين: “ما يثير دهشتي، بينما أمشي في هذا الشارع مع ضوء الشتاء القليل، هو كم يمكن أن يبدو شارعاً فارغاً إذا لم نبحث بشكل دقيق، كم يبدو عادياً وبسيطاً”. في واقع الأمر، يعجّ هذا المكان بالمعالم الهامة: مكان ولادة وايلد؛ مكان عمل والد جويس؛ ومكتب البريد حيث يستلم ليوبولد بلوم رسالة في رواية “عوليس”.

يستكشف توبين في هذا الكتاب البيئة التي تشاركتها العائلات الثلاثة ــــ عالم دبلين الصغير في القرن التاسع عشر ــــ والروابط العديدة التي جمعت بينهم. لقد عرف جدّا ويليام ييتس ووالده أبوي أوسكار وايلد، وسيتناول ييتس الشاب العشاء لاحقاً في منزل أوسكار وايد في لندن، كما أشار توبين. التقى والد ييتس أيضاً بجيمس جويس الشاب، ووجده “ثرثاراً للغاية”. لكن، وبالرغم من هذه التقاطعات بين حياة العائلات الثلاثة، خصّص توبين لكل أبٍ فصلاً لوحده، بادئاً بويليام وايلد.

يحكي هذا الكتاب الكثير من القصص عن علاقة الأب/الابن والتي من الواضح أنها جاءت بعد الكثير من البحث والربط الذكي. يقتبس توبين مثلاً ما قاله أوسكار وايلد عن علاقته بوالده: “حيث يكون هنالك كره بين اثنين من البشر، يكون هنالك رباط أو اتحاد من نوعٍ ما …لقد كرهتما بعضكما البعض ليس لأنكما مختلفان جداً، بل لأنكما متشابهان جداً.”

كذلك، كتب ويليام بتلر ييتس عن والده، الرسام جون بتلر ييتس: “إن ضعف الإرادة هو ما منعه من إتمام لوحاته. السمات التي أعتبرها ضرورية للنجاح في الفن أو الحياة بدت له نوعاً من الأنانية”.

أمّا بالنسبة لجون ستانيسلاوس جويس، والد جيمس، فيقدمه توبين على أنه الأيرلندي الأكثر أصالة من بين الثلاثة: رجل ذو شعبية كبيرة، ثرثار، مغنيّ، سكيّر ذو مزاج متقلّب، تسبّب برحيل ابنه عن أيرلندا. بالإضافة إلى ذلك، وبالرغم من التركيز على الآباء، تتخلّل هذا الكتاب إشارات غنيّة إلى الأعمال الأدبية للأبناء كثيري الشهرة، إذ يتناولها توبين في ضوء قراءات جديدة. يرد مثلاً نماذج عن قصائد ييتس، ورسالة وايلد التي كتبها في السجن تحت عنوان “من الأعماق”، بينما يحظى أدب جويس، المليء بإشارات لعائلات ييتس، وايلد، وجويس نفسه، بالحصة الأكبر من الاهتمام.

يطرح توبين في هذا الكتاب سؤالاً مهماً: هل يتمنى كل رجل سرّاً موت أبيه؟ ليجيب مقتبساً من كاتب السير الشهير ريتشارد إيلمان: “إن هذه الفكرة لا تخلو من الصواب. بهذا المعنى، يقترح توبين أنه بفضل غياب أبويّ معيّن، استطاع هؤلاء الأبناء أن يُخرجوا عبقريتهم إلى العالم. صحيح أن الموت أخذ وقته في حالة جون بتلر ييتس وجون ستانيسلاوس جويس اللذين عاشا حتى الثمانين، لكن بينما انتظر إبناهما بصبر، وأحياناً بنفاد صبر، وحتى لو لم يعرفا بدقة ما الذي كانا ينتظرانه، إلا أنهما، وبالعديد من الطرق، حاولا تسريع الأمور. لم يرَ جويس والده ولا مرّة خلال التسعة عشر سنة الأخيرة من حياته؛ ولم يكن ييتس كذلك ميّالاً لزيارة أبيه المسنّ في نيويورك، حيث عاش من عام 1907 حتى موته في 1922، رغم أنه ساعد في دفع فواتير منزله.

في المقابل، كان أوسكار وايلد لا يزال شاباً عندما لفظ ويليام وايلد، الاختصاصي في جراحة العين والأذن وعالم الآثار، أنفاسه الأخيرة عام 1876 بعمر الواحد والستين. لكن، وكما يشرح توبين في كتابه ببراعة: “بما أن وايلد بذل كثيراً من الجهد ليكون معلوماً للجميع أنه صنع نفسه بنفسه، فمن السهل أن نفهم أن وجود أبٍ بقربه كان ليبدو في بعض المراحل أمراً لا لزوم له”. عندما كتب وايلد رسالة “من الأعماق” خلال وجوده في سجن ريدينغ بعد حوالي عشرين عاماً من موت أبيه، كان ثمة شخص واحد مفقود من الرسالة، تقريباً بشكل كامل، هو والده. برغم ذلك، كان لدى الاثنين الكثير من الأشياء المشتركة؛ فالفضيحة التي خلّفها ويليام في إثره، تنذر بشكل غريب بالفضيحة التي ستنزل بابنه لاحقاً (ممرضة الأب ماري ترافيرس اتهمته بإغوائها، وتقدمت بقضية تشهير ضد زوجة ويليام، جين، وربحتها). لقد أحسن توبين فعلاً بأن أظهر كيف استبَقت أجزاء من محاكمة الأب مشاهد من محاكمة وايلد الإبن التي ستحدث لاحقاً ضد ماركيز كوينزبري عام 1895.

يمكن لنا أن نجد شيئاً ممتعاً وحاذقاً في كل صفحة من هذا الكتاب تقريباً. في الفصل الذي يتحدث عن والد جويس، مثلاً، يكرّس توبين جهده للبحث عن الرجل بين صفحات قصص وروايات إبنه. يعتبر توبين أن هذه العلاقة هي الأكثر تعقيداً من بين الثلاثة. في الحياة، كان جون ستانيسلاوس سكيراً عنيفاً وقع، إلى حد كبير بسبب أخطائه، في أوقات مالية صعبة، وكان أولاده مشمئزين منه في كثير من الأوقات ـــ حقائق مثل هذه تجعل قيامته المضيئة في كتابات جويس أكثر لفتاً للنظر، وتقدم مثالاً عن الحب والإبداع الفني في الوقت ذاته. يقول توبين إنه رغم الدمار المالي، والخوف والبؤس الذي تسبب به لعائلته، قدم جون لإبنه مادة خام غنية ليُصار تحويلها إلى أدب. كان جون الأب بمثابة مصدر وحي “نصف متوحش”، شخصية حوّلها جيمس جويس ونقلها من كتاب إلى آخر، من “أهالي دبلن” إلى “ستيفن بطلاً” إلى “صورة الفنان في شبابه” وأخيراً إلى “عوليس” حيث تظهر اللمحات الأكثر وضوحاً لجون ستانيسلاوس. ويعتقد توبين في عرضه هذا أن ما أسرَ جويس كان المسافة المربكة المبهمة بين ما عرفه عن أبيه، وما أحسّه تجاهه.

يعتبر بعض النقاد أن الجزء الأكثر إمتاعاً في كتاب “مجانين، رديئون، ومن الخطر معرفتهم”، هو الجزء الذي يتحدث فيه توبين عن جون بتلر ييتس، الفنان المشهور الذي عُرف بفشله في إتمام معظم لوحاته، ورسمَ فقط الذين أحبهم، لأن فعل الإبداع بالنسبة له كان بمثابة فعل تعاطف. لقد جاء تأثير جون في شعر إبنه عميقاً؛ ودفعه وجود الإبن بعيداً في الولايات المتحدة إلى كتابة الكثير من الرسائل له، ليحدثه عن عمله بحماس بالغ. لكن، من بين الرسائل التي يعرضها توبين، نجد أنفسنا أكثر تأثراً برسائل حب جون إلى روسا بات؛ هذه المراسلات العاطفية التي لم تبدأ حتى سنّ الشيخوخة، بالرغم من أنه وروسا عرفا بعضهما منذ الشباب.

يقول توبين إن الرسائل التي كتبها جون إلى روسا لم تكن فقط عن الحياة التي ضيّعها ولكن أيضاً “عن الحياة التي تخيّلها. لقد أعطى تلك الحياة روح واقع معاش، كما لو أنها لم تكن فقط ممكنة، بل حاضرة أيضاً”.

يرى النقاد أن تفسير توبين لهذه الرسائل كان مؤثراً جداً وعاطفياً، حيث أكد في قراءته لها أن “الرغبة تستمر وتستمر، ولا يجب أن نصدق كل من يقول لنا عكس ذلك”.

يلاحظ توبين كذلك أن رسائل جون تتشابه مع العديد من القصائد التي كتبها الإبن ويليام ييتس بعد موت الأب، والتي تحتوي بشكل واضح ملامح تمرد في وجه الشيخوخة. بطريقة ما، كان الإبن يحسد أباه على قدرته “الشبقة” على السعادة، ولاحقاً سمح لتلك السمة أن تنفذ إلى أشعاره عن الشيخوخة.

نلاحظ أيضاً أنه، وبالإضافة إلى السرد الحياتيّ الممتع، يمّرر توبين في هذا الكتاب ومن خلال هذه القصص توصيفاً ضمنياً لولادة هوية الثقافة الأيرلندية الحديثة عبر الإسهامات الاستثنائية التي قدمها المؤلفون الثلاثة البارعون للأدب الأيرلندي خصوصاً، وللأدب عموماً.

إن “مجانين، رديئون، ومن الخطر معرفتهم”  كتاب شيّق وغني يلقي الضوء ليس فقط على العلاقات المعقدة بين ثلاثة من أعظم الكتاب باللغة الانكليزية وآبائهم، بل يوضح كذلك الأشكال المفاجئة التي يظهر بها هؤلاء الآباء في أعمال أبنائهم. “لقد خلق هؤلاء الآباء الثلاثة نوعاً من الفوضى”، يكتب توبين، “بينما صنع أبناؤهم أدباً”. رغم ذلك، شكّل كل رجل من هؤلاء العجائز ضرورة خلّاقة لأدب ابنه المتنامي.

الميادين نت

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى