مجدي أحمد علي: «مولانا» يواجه سرطاناً يهدد الوطن
وسط حفاوة بالغة، تم طرح فيلم «مولانا» في دور العرض المصرية أخيراً. احتفاء نخبوي وإقبال جماهيري، حققا المعادلة الصعبة للفيلم المأخوذ عن رواية للكاتب إبراهيم عيسى. وخلال أربعة أيام من طرحه في أكثر من 60 دار عرض، اقتربت إيراداته من مليوني جنيه. ولعل ما يميز الفيلم أنه جاء بمثابة حجر ألقي في مياه راكدة. جاء في زمن ترعرعت فيه «الحسبة»، وتجذرت الأصولية بما تنطوي عليه من تكفير، يستخدمه الأصوليون وفق أهوائهم، فيحرّمون ويجيزون وفقاً لمصالحهم. زمن ظهرت فيه جماعات تجز الرقاب وتتفنن في وسائل القتل البشعة استناداً إلى فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان. الفيلم بطولة عمرو سعد، وفتحي عبدالوهاب، ودرة، ومن إخراج مجدي أحمد علي، وتدور أحداثه حول الشيخ «حاتم الشناوي» ورحلة صعوده من خطيب في أحد المساجد إلى داعية شهير يظهر عبر برنامج تلفزيوني يقدم من خلاله «الفتاوى» للجمهور، فيحظى بالإعجاب البالغ خلال محاولاته الخروج عن قوالب التشدد في مجتمع ترعرع فيه الفكر المتشدد.
ويبدو أن الفيلم قد قضَّ مضجع بعض رجال الدين، فأعلنوا رفضهم له «لتجسيده شخصية رجل دين»، كما لو كان هؤلاء ملائكة معصومين وليسوا بشراً يخطئون ويصيبون. فالبعض ما زال عاجزاً عن مواجهة الفكر بالفكر والرأي بالرأي والحجة بالحجة، ويخلط بين الواقع والخيال، ويقيم محاكمات للفكر والعقل. وبين هجوم واشتباك واتهامات وجهها بعض العامة أو رجال الدين وغلاة التشدد وبينهم شيوخ من الأزهر، طاولت الهجمات الفيلم حتى قبل طرحه للعرض ومشاهدته، ووصل الأمر إلى مطالبات بمنعه، أبرزها من كبير الأئمة في وزارة الأوقاف الدكتور منصور مندور، «لأنه يعرض الدعاة للسخرية ويتطاول عليهم». وطالب عضو اللجنة الدينية في مجلس النواب البرلمان (المصري) شكري الجندي بوقف عرض الفيلم، مشدداً على ضرورة عرض الدراما الدينية على لجنة من الأزهر الشريف ووزارة الأوقاف قبل عرضها على الشاشات.
واللافت خلال متابعة من طالبوا بالمنع أنهم بمعظمهم لم يشاهدوا الفيلم لكنهم اعتمدوا في تكوين وجهة نظرهم المضادة على مشاهدة الإعلانات الدعائية الخاصة به. يحدث ذلك فيما يتلقى الفيلم إشادة أهل الفن والأدب والسينما، وبعض الدعاة، ومنهم الشيخ الأزهري خالد الجندي الذي قال أن الفيلم «يؤكد احترام الدراما للعالِم الأزهري، فكم أتت شخصية الشيخ رائعة، وهو المقاتل الذي لا يتنازل عن ثوابته، وهو الزوج الرومانسي الرقيق، وهو الأب الحنون».
أزمات عدة ما زالت تطاول الفيلم وتهدد بالعصف به وبإيراداته حيث تعرض لعملية «قرصنة» وطرح نسخ منه عبر موقع «يوتيوب»، في ما يبدو أنه حملة ممنهجة لتكبيد صناع العمل خسائر مالية فادحة، وفق ما قال المخرج مجدي أحمد علي، لـ «الحياة». اعتاد مجدي أحمد علي الذي تتلمذ على كبار المخرجين مثل يوسف شاهين ومحمد خان وخيري بشارة، طرح «قضية» تؤرق المجتمع في كل عمل يقدمه، وفيلم «مولانا» ليس أول عمل له يثير لغطاً، إذ سبق أن واجه مثل ذلك عند عرض فيلمه «أسرار البنات» في العام 2001، على سبيل المثل. وهو أحد مخرجي الواقعية في مصر، وإن كانت أعماله قليلة، لكنه حفر اسمه بين الكبار.
«الحياة» التقته وأجرت معه هذا الحوار:
> هل استهدفت فضح الدعاة الجدد من خلال الفيلم؟
– بالطبع لا، وكلمة «فضح» ليست من مفردات قاموسي، فالفيلم يتناول حالة أحد الدعاة الجدد، بل يقدم حالة من التعاطف مع هذا الداعية الذي يحاول تقديم خطاب جديد ومختلف، كما يطرح العمل الضغوط التي يواجهها هذا الداعية سواء من المجتمع أم من السلطة. كان الدين حاضراً لكن الدين بالمعنى الوسطي والعميق والتنويري.
يخلطون بين الرواية والفيلم
> لماذا تعرض الفيلم لهجوم شديد واتهامات بالإساءة لرجال الدين قبل عرضه؟
– لا أستطيع أن أعلق على آراء لم تشاهد الفيلم وهاجمته مسبقاً، لكن ربما يخلط البعض بين الرواية والفيلم رغم الاختلاف الكبير، ولا أرغب في مناقشة الرواية، فالمختص بمناقشتها هو مؤلفها إبراهيم عيسى، بينما يمكنني مناقشة الفيلم الذي أقدم من خلاله معالجة مختلفة للراوي. وحين قدمت شخصية «الداعية» تعمدت ألا أقدم شخصية «البطل» وفقاً للصورة الذهنية التي ترسَّخت لدينا عبر عقود والمتمثلة في أنه بلا عيوب بل الأقرب إلى «نموذج مثالي»، فهذا النمط قد يشاهده الجمهور لكنه في الحقيقة لا يحبه. الجمهور يحب الشخص الذي يشبهه في السمات ويتواجد حولنا في الواقع.
> لماذا أسيء فهم «مولانا» إذاً؟
– طرحتُ شخصية «الداعية» لكن من دون تجريح، مدركاً أنه سيثير جدلاً، ووضعت في اعتباري أنني أقدم الفيلم إلى مستويات سينمائية مختلفة، وبعضها قد يترك تفاصيل الفيلم ويتوقف عند ما يخص علاقة بطل الفيلم الإنسانية بزوجته وغيرها من المحيطين به. أطالب الناس بأن تشاهد الفيلم بروح فيها قدر من الحب والانفتاح، وأؤكد أنني لم أرغب في ابتزاز أو استفزاز أي طرف، ليس لكوني منافقاً، لكن لأنني أرغب في توجيه خطاب محبة، وإقناع أكبر قدر من الجمهور بتلقي أفكار العمل بروح طيبة، بعدما طال تجاهلها حتى اختلطت الأمور وصارت موضوعات حساسة حتى أنها لم تعد تطرح للنقاش.
وأؤكد أنني لا أبغض أحداً، بمن في ذلك السلفيون، لكنني أكره مَن ينكرون طبائع الإنسانية وفكرة الدستور والحوار والوطنية والدولة الحديثة. أنا ضد كل من ينكر ما هو إنساني وعصري ووطني.
> هل أردت تشجيع نمط معين من الدعاة؟
– هناك دعاة قدموا برامج وأفلاماً ثقافية، تكاد تكون ترفيهية وبدأت هذه الروح تنتشر. لكن الفكرة الأساسية التي أردتُ طرحها هي ألا يعتقد أحد أنه محتكِرٌ للحقيقة لأنها نسبية، فلنختلف ولكن في إطار احترام الحق في التعبير، حيث تبدأ الكارثة حين يعتقد البعض أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة أو الاعتقاد بأنهم وحدهم على صواب، ومن ثم لا يتورعون عن قتل من لا يقتنع بآرائهم. ومن المؤسف أننا تعودنا على عدم مواجهة تلك الأفكار حتى صار لدينا جرح غائر يحتاج للتطهير والتضميد كي يلتئم. التعصب مذموم في أي ديانة. من حقك أن تعتنق الدين الذي تشاء، لكن عليك أيضاً أن تحترم حق الآخرين في اختيار عقائدهم الدينية مصداقاً لقول الله تعالى: «لكم دينكم ولي دين». يُفترَض أننا نعيش في رحاب الدولة المدنية الحديثة التي تجاوزت حد السيف. ومن لا يرغب في التعايش مع هذه الأفكار فإنه يتجاوز التاريخ، وبات ضد الإنسانية والوطن.
محاولات لوقف التسريب
> لماذا تعرَّض «مولانا» للقرصنة؟
– نحاول وقف تسريب الفيلم عبر اتفاق مبرم مع إدارة «يوتيوب» في هذا الصدد. هم استجابوا وأوقفوا مجموعة من نسخ القرصنة، لكن سرعان ما يتم تنزيل نسخ أخرى. تراودني الشكوك في أنها حملة ممنهجة ضد الفيلم.
> هل تلك الحملة تستهدف الفيلم عموماً أم إنها موجهة إلى كاتب قصته، إبراهيم عيسى؟
– هناك من يستهدف إبراهيم عيسى بذاته. وهناك من يستهدف الفيلم ككل. النجاح المذهل أصابهم بالرعب. السلطات الأمنية المختصة بالشأن المعلوماتي في فرع جرائم الإنترنت، يفترض أنها قادرة على الوصول إلى مَن يقوم بذلك ومحاسبته على تلك السرقة العلنية. مِن السهل الوصول إلى هؤلاء، وهناك وقائع مشابهة تم الوصول فيها إلى الجناة بسرعة، بينما هناك قدر من التقاعس تجاه النسخ المسربة من «مولانا».
> هل هناك تواطؤ؟
– لا أريد القول أنه تواطؤ، لكنه إهمال في حماية حقوق المستثمرين. هذا يعد استهدافاً لصناعة وطنية، وأي مستثمر لن يضع أمواله مستقبلاً في مشروع يعرف أنه ستتم سرقته.
> أخذت على عاتقك سواء من خلال أفلامك أو مواقفك أن تواجه الأفكار الظلامية… لماذا سلكت هذا الطريق الشائك؟
– منذ أول أفلامي، «يا دنيا يا غرامي»، أقدم شخصية أو شخصيتين على علاقة بمثل تلك الأفكار، لأنني مهموم بذلك للغاية، وأرى أن الوطن لن يتقدم سوى بالتخلص من هذا السرطان، لأنه كفيل بضرب أي تجربة للدولة الوطنية في مقتل. هذه التجربة التي تأسست في فترة ما قبل الخمسينات كانت واضحة في مصر وكان هناك إجماع حولها. وهي تتعرض الآن لخطر داهم من قبل الأفكار التي تضرب الوطن والحياة ذاتها، فحينما تتحدث عن التفرقة بين الناس على أساس الدين ثم على أساس فروق الدين نفسها، إذاً نحن بصدد أشخاص يحتكرون الحقيقة ويلغون كل ما هو إنساني ودستوري. حتى دولة المواطنة ليس لها وجود، وبالتالي أنت لا يمكن أن تبدأ أي نمو حقيقي ومدني حديث إلا بعد الخلاص من هذه الآفة. للأسف، الدولة تحارب الإرهابيين، لكنها لا تحارب أفكار الإرهاب ذاتها.
> كيف؟
– لا بد أن تتبنى الدولة الفكرة على الأصعدة كافة، بداية من التعليم وحتى الثقافة وتجعل الأمن الحلقة الأخيرة. لكن الدولة تسمح بوجود آلاف الفروع لجمعيات تنشر التطرف بصور عدة، وتترك ميزانياتها بلا مراقبة لدرجة جعلت أحد الشيوخ يصرح بأن ميزانية إحدى تلك الجمعيات تفوق ميزانية الدولة. الدولة تسمح لهؤلاء بشغل مساحة معتبرة من الساحة الإعلامية، ومن المساجد، وتترك لهم الحبل على الغارب، ليبثوا أفكار التطرف وازدراء الدين المسيحي والمسيحيين الذين هم شركاء الوطن. دائماً تأتي حلول الدولة في شأن الوحدة الوطنية وقتية وشكلية ما يكرس التطرف والتفرقة. الدولة تعطي علامة بطريقة أو بأخرى إلى أننا لسنا متساوين ولا نعيش في دولة مواطنة. هذه المعطيات تشجع التطرف وتغذيه، ناهيك بعدم تشجيع القوى الناعمة على الانطلاق، عبر سجن أشخاص على أساس آرائهم، وإبداعهم، بالإضافة إلى أن الدولة تقف عاجزة عن بناء دور عرض سينمائي أو مسارح ومكتبات، وما زالت تتعامل مع السينما والمسرح بوصفهما «ملاهي»، فيصب ذلك في مصلحة انتشار الأفكار الظلامية.
المجتمع قادر على المواجهة
> هل السينما قادرة على مواجهة هذه الأفكار إذا تمَّ دعمها؟
– ليس فقط السينما. المجتمع كله، لا بد أن يتم تجنيده لهذه المعركة التي تعد معركة حياة أو موت. في مصر ما يزيد على 90 مليون نسمة، ومن العار أن يكون لدينا 500 دار عرض فقط. يُفترَض أن يصل عددها إلى 50 ألفاً. لدينا محافظات لا توجد فيها دار عرض سينمائي واحدة. المدن الجديدة، تحتوي الواحدة منها بالكاد دار عرض واحدة. نحن في حاجة إلى النظر إلى السينما باعتبارها صناعة ثقيلة، وهذا يتطلب إرادة سياسية عليا. لا يصح أن نردد هذا الكلام في شكل متواصل، بل ينبغي على الدولة الإيمان بهذه الفكرة.
> رغم تميزك فنياً، إلا أنك مقل؟
– لأن من الصعب العثور على موضوع جيد. في مصر، يحمل المخرج على كاهله عبء الفيلم بكامله. أقوم شخصياً بإعداد الموضوع وكتابته أو أحرص على أن أتابع مَن يكتبه ثم أبحث عن منتج، ثم فريق العمل. صناعة الفيلم تبدأ وتنتهي عند المخرج. لست من ذلك النوع من المخرجين الذي ينتظر أن تأتي إليه الأعمال، بل أقف على تفاصيل كل عمل وأحرص على المشاركة في كتابته. السينما بالنسبة لي ليست «أكل عيش»، بل موقف أحترمه.
> ماذا عن مشروع فيلم «محمد عبده»؟
– ما زال المشروع في طور الكتابة، وطُرحت فكرته كمسلسل. لديَّ معالجات مختلفة، لكنني في حاجة إلى من يتحمس للموضوع.
> لماذا الإمام محمد عبده تحديداً؟
– لا بد أن ننظر باستغراب إلى محمد عبده والزمن الذي عاش خلاله، ونرصد كيف وصلت بنا الأوضاع إلى هذا الحد، وكيف كان يطرح محمد عبده تلك الأفكار التنويرية في ذلك الزمن البعيد، بينما نعجز عن طرح بعضها في زمننا هذا.
> عملت مع محمد خان ويوسف شاهين وخيري بشارة… ماذا تعلمتَ منهم؟
– محمد خان هو أستاذي الأول. تعلمتُ منه الكثير. أن أكون مسؤولاً تماماً عما أفعله، وعندما يمنحني خيالي فكرة، فلا بد أن أصمم على تنفيذها، وألا أسمح لأحداث التصوير اليومية أن تجعلني أتنازل عما تخيلتُه. يوسف شاهين، تعلمتُ منه الحرفية الشديدة. مَن لم يعمل مع يوسف شاهين من الصعب عليه أن يكون مخرجاً ناجحاً. حينما كنا نسأله أي سؤال، كان يوقف التصوير ليجيب. كان يولي تلاميذه اهتماماً بالغاً. يغمرني الفخر بالعمل معه. بينما تعلمت التلقائية من خيري بشارة، بالإضافة إلى القدرة على تأمل موقع التصوير والخروج منه بأفكار جديدة. بشارة يمتلك قدراً عظيماً من العفوية والتلقائية، إلى جانب القدرة على التخطيط.
صحيفة الحياة اللندنية