مجد الرواية وخراب العالم
منذ سنوات، تتصدّر الرواية المشهد الأدبي في مصر والعالم العربي والعالم أيضاً. وليس معنى ذلك أن لا قيمة للشعر. يظلّ الشعر في مكانةٍ أعلى فنياً حتى لو قلَّت أعداد محبّيه ومريديه. الشعر جرى عليه تغير غائب عن الذين يتصورون أن الرواية تفوقت عليه، وهو أنه لم يعد الفن الشفاهي الذي يُلقى على الناس في المحافل العامة. صارت القصيدة أكثر تعقيداً، وقد أعود إلى توضيح ذلك في ما بعد. من هنا انفتح المجال أكثر للرواية. صارت الرواية عالماً موازياً لعالم لعين قاتل يعيشه الناس في حالة منفى روحي.
المنفى الروحي في الدول المتقدمة صنعته تكنولوجيا جعلت من الإنسان تابعاً لها رهيناً بتطورها وآلياتها وهذا هو أقسى أنواع الاغتراب وإن لم يدركه الإنسان العادي نفسه.
في الدول المتخلفة اغتراب الإنسان يأتي من النظم القمعية التي تقوم بتهميشه وتقنعه كل يوم أنّ لا قيمة له وأن السلطة الحاكمة هي من تفهم وهي من تعرف مصلحة الدولة والمجتمع وعليه أن لا يعارض ومن ثم جاءت الرواية عالماً موازياً يجد فيه الإنسان متعته في الحياة مع شخصيات جانحة أو مقهورة تجد ملاذها في أساطير أو جنون.
يوماً ما قيل إنّه إذا ساد العدل في العالم ستنتهي الرواية لأنه لن يوجد ما يثير الإنسان للكتابة، لكنّ هذا العدل الكامل لا يتحقق أبداً حتى في الدول المتقدمة التي يسود فيها العدل بدرجات كبرى. في الدول المتخلفة لا يسود العدل ولن يسود، لأن نظم الحكم تعمل من أجل استقرار الجهل وزيادته ويساعدها مفكرون ورجال دين يطلبون من الإنسان الرضا وعدم الخروج على الحكام الذين امتلكوا الحقيقة المطلقة.
هكذا يعاني الإنسان في الدول المتخلفة من اغتراب في المكان والزمان معاً وهو أقسى أنواع الاغتراب. مصر اشتهرت بالرواية قبل غيرها من دول العالم العربي. ليس مهماً مَن بدأ كتابة الرواية فهذا محلّ خلاف. لكنّ الرواية استقرت وانتشرت في مصر أكثر من غيرها. الآن تداخل العالم العربي كله في فن الرواية، وأصبحت أسماء الكتاب العرب على قدم وساق مع الأسماء المصرية وتسبقها في بعض الأحيان في الجوائز أو نسبة القرّاء. لكنّ الكثافة السكانية في مصر تجعل أعداد الكتاب من الروائيين النابهين والموهوبين أكثر. والمتابع للروايات، وهذا أمرٌ صعب، يجد فيها جرأة على التجديد واكتشاف أماكن هامشية وشخصيات متمردة أو مغتربة في عالمها. باختصار: الرواية عالم موازٍ لا تجده حولك فما حولك لا يمتع كما تمتع الرواية. زاد القراء الباحثون عن المتعة فاندفعت الرواية كفن إلى أنواع كانت غائبة عنها مثل الرواية البوليسية ورواية الخيال العلمي وهكذا اكتملت أشكال الرواية السائدة في العالم في بلد مثل مصر. بل وظهر جمهور جديد كبير جداً يجري وراء الروايات السهلة، «البوب»، الشعبية، باحثاً عن متعة وقتية. يتضايق بعض الكتاب من استحواذ الروايات الشعبية على القراء وينسون أنه وقد اكتملت أنواع الرواية فلا بد أن يتعدد الجمهور ويتنوع. لكني أسعد بأسماء قد لا يتسع لها هذا المقال، مِن ضِمنهم الشعراء أو الصحافيون المنضمون إلى قائمة الروائيين، وكلهم يؤكدون مجد الرواية في مقابل خراب العالم. خذ مثلاً بعض الأمثلة من الأجيال كافة: سلوى بكر، هالة البدري، أمل صديق عفيفي، هناء عطية، ميرال الطحاوي، ضحى عاصي، عزة سلطان، منصورة عز الدين، منى الشيمي، رباب كساب، سعاد سليمان، دعاء إبراهيم، نوال مصطفى، مكاوي سعيد، عمار علي حسن، أشرف العشماوي، وحيد الطويلة، مدحت طه، منير مطاوع، محمد عكاشة، محمد الفخراني وأحمد الفخراني. وتضم أيضاً محمد بركة، محمد عبدالنبي، حسن عبدالموجود، ياسر عبداللطيف، أدهم العبودي، علاء فرغلي، مصطفى الشيمي، شريف سعيد، أحمد القرملاوي، محمد داود، محمد عبد النبي، أحمد عبد اللطيف، حسين عبدالرحيم، أحمد مجدي همام، محمد راجح، حسن كمال، علي عطا، أحمد فضل شبلول، أحمد عبدالمجيد، ولاء كمال، أحمد عبدالمنعم رمضان. كتاب رائعون من أعمار مختلفة ومدارس مختلفة. وغيرهم كثير جداً. أصغرهم آخرهم. كلهم وغيرهم كثير أعتذر لهم لخيانة الذاكرة. وكثير منهم فاز بجوائز مهمة ابتداء من البوكر حتى جائزة ساويرس. وكثير منهم تُرجمت رواياته إلى لغات أجنبية وكلهم يعوضوننا عن خراب العالم من حولنا.
صحيفة الحياة اللندنية