اقتصاد

محروقات خارج الدعم: سوريا تكافح «السوق السوداء»… بمُنافستها!

حتى خلال أشدّ أزمات المحروقات في سوريا، عندما كان المواطن العادي عاجزاً عن تأمين هذه المواد عن طريق مؤسّسات الدولة بالشكل التقليدي، أو بالآليات التي وضعتها الحكومة لتوزيع الغاز والمازوت والبنزين المدعوم، كان بالإمكان الحصول عليها من السوق السوداء، بكمّيات مختلفة، لكن بأسعار مرتفعة جدّاً. هكذا، ظلّت تلك السوق تتوسّع وتزدهر، حتى باتت علنية على الطرقات العامّة وفي الأحياء السكنية، وعلى مرأى من مؤسسات الرقابة والأجهزة المعنيّة المختلفة، فيما صار العاملون فيها يحقّقون أرباحاً هائلة، بأدنى جهد ممكن، وأقلّ رأسمال أيضاً، وسط تراخٍ حكومي وشبهات فساد. في قراءتها للظاهرة، تتقاطع إفادات مصادر في مؤسّسات حكومية ثلاث هي: الجمارك، وزارة التجارة الداخلية، ووزارة النفط، على التأكيد أن هناك مصدرَين رئيسَين للمحروقات في السوق السوداء: التهريب وقد تراجعت نسبته كثيراً؛ ومؤسّسات الدولة ذاتها التي يتمّ تهريب المحروقات المدعومة منها أو سرقتها، بطرق تبدو في الشكل مشروعة، لكنها في المضمون عمليات فساد وسرقة. وتُظهر الأرقام الرسمية أن الدولة تدفع أموالاً طائلة من ميزانيتها لدعم احتياجات أساسية للمواطنين؛ إذ بحسب ميزانية عام 2021، فإن سوريا تدعم المشتقّات النفطية بحوالى 2700 مليار ل.س، أي ما يعادل أكثر من مليار دولار (بحسب سعر الصرف الرسمي)، بينما تقدَّر فاتورة مجمل الدعم عام 2022، بحوالى 5529 مليار ل.س، أي قرابة 42% من الموازنة العامّة للدولة.

إزاء ذلك، اتّخذت الحكومة، الأسبوع الماضي، قراراً مفاجئاً بطرح المشتقّات النفطية للبيع خارج إطار الدعم، وبسعر ينافس أسعار السوق السوداء، حيث رفعت سعر المازوت الصناعي أكثر من 50%، وحدّدت سعره «الحرّ» (غير المدعوم) بـ1700 ل.س (حوالى 70 سنتاً) لليتر الواحد، وأعلنت أنه متوفّر لِمَن يريد، وأن هذا الطرح يأتي استجابةً لمطالب الصناعيّين الذين يشترون المادة من السوق السوداء بسعر 4000 ل.س (حوالى 1.58 دولار). وفي اليوم التالي، أعلنت شركة المحروقات «BS»، المملوكة لـ«مجموعة قاطرجي»، أنها توفّر المازوت بالسعر الذي حدّدته الحكومة، وأنه ما على الصناعيّين سوى تسجيل طلباتهم في غرف التجارة والصناعة للحصول عليه. لكن ما يجدر التنبّه إليه، هنا، هو أن الشركة نفسها كانت قد نشرت إعلاناً مماثلاً عام 2020، بعدما كانت الحكومة قد أصدرت تعديلاً على سعر المازوت الصناعي أيضاً، إلّا أنه بعد عام فقط من ذلك، عاد التجّار ليشتروه بـ4000 ليرة، الأمر الذي يطرح تساؤلات عديدة حول قدرة هذه الشركة أو غيرها على توفير المادّة للمستهلكين بشكل مستدام، مع الالتزام بالسعر الحكومي.

وفي الاتجاه نفسه، أقرّت الحكومة قراراً آخر بطرح مادة الغاز للبيع خارج الدعم، وبسعر وصل إلى أكثر من 30 ألف ل.س (12 دولاراً) بحسب سعر الصرف الرسمي للدولار، وهو ما أثار الكثير من الجدل، ودفع وزير التجارة الداخلية، عمرو سالم، إلى التأكيد أن القرار «لن يمسّ المواطنين»، بمعنى أن «المواطن لن يتضرّر من ذلك، بل سيستفيد»، بحسب ما عادت الوزارة وأوضحت لاحقاً.

وفي تعليقها على ذلك، ترى وزيرة الاقتصاد السابقة، لمياء عاصي، في حديثها إلى «الأخبار»، أن «قرارات طرح هذه المواد للبيع بأسعار تغطّي تكاليفها، تؤكّد أن الدولة غير قادرة على تأمين الكمّيات التي تلبّي احتياجات المواطنين والمؤسسات الإنتاجية معاً بأسعار مدعومة»، مبيّنة أن الهدف من هذه القرارات هو «تقليل فاتورة الدعم إلى الحدود الممكنة». لكن الخطوات الحكومية الأخيرة أعادت طرح السؤال حول هويّة الاقتصاد السوري، وما إذا كانت تعني تَغيّراً في عقلية الدولة ومفاهيمها؟ تجيب عاصي بالقول: «المؤسسة السورية للتجارة تلعب دوراً مزدوجاً بين تأمين المواد المقنّنة بسعر مدعوم، وبين البيع والشراء وتحقيق الربح كأيّ تاجر، لذلك فإن تحقيق مبدأ المنافسة بين مؤسّسات القطاعَين العام والخاص، يجب أن يكون لمصلحة المستهلك، والمؤسسات المملوكة للدولة يجب أن يقتصر نشاطها على قطاعات معيّنة، ليس بينها تجارة التجزئة»، مضيفة أن «الاقتصاد السوري اقتصاد مختلط، سماته الأساسية متشابهة مع اقتصاد السوق، من حيث العرض والطلب كأدوات رئيسة، ولكن تدنّي القدرة الشرائية لعموم الناس، وتحكُّم بعض المستوردين بالسوق، جعله اقتصاد القِلّة والاحتكار».

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى