محطة في تاريخ حرائق دمشق..!
دمشق ــ خاص ب بوابة الشرق الأوسط الجديدة :
لم يكن تفتح الياسمين وحده صورة من صور المدينة المعروفة، كذلك لم تكن شفافية مياه نهر بردى عبر التاريخ وحدها القادرة على جذب الآخرين للتعرف على دمشق، لقد كانت المآسي أيضا واحدا من الملامح التي عرفتها المدينة وتغلبت عليها عبر التاريخ ..
ومن تلك المآسي ، الحرائق، .. نعم فقد عرفت مدينة دمشق عبر التاريخ حرائق كثيرة، ولكل من تلك الحرائق حكاية سجلها التاريخ ، ويسجلها الآن لتتناقلها المدينة في رحلتها الصعبة مع الحياة ..
ويثير الحريق الذي اندلع في سوق الحميدية بدمشق يوم الجمعة الماضي ، شجونا مردها الحرائق الكثيرة التي وقعت في مدينة دمشق والتي عاشها الناس هذه الأيام أو وثق التاريخ بعضها فتحولت تفاصيلها إلى روايات أدبية أو تاريخية..
فالحريق الذي اندلع مؤخرا والذي قيل إن سببه ماس كهربائي في أحد المحال التجارية في سوق “مردم بيك” بالحميدية وامتد إلى تسعة محال أخرى، هو قريب من الحريق الذي وقع قبل فترة وجيزة تعود إلى شهر نيسان الماضي في سوق العصرونية، وأتى على 50 محلا تجاريا في ذلك السوق ..
أي أن تحاشي الحرائق بشكل تام هو أمر صعب في ظل ظروف تختلف بين واقعة وأخرى، فإذا كان الماس الكهربائي سببا الحريق الأول في السوق، فربما يكون المطر سبب الحريق الثاني في مكان قريب من الأول ..
والجهات المعنية تهتم بمدينة دمشق لأكثر من سبب ، فتحاشي الحريق هو ضرورة لتحاشي الكوارث التي تنتج عنه، لكن تحاشيه أيضا يتطلبه الحرص على جمال المدينة وأصالتها وعنفوانها التاريخي الذي تتناقله الأجيال ..
في الآونة الأخيرة سارعت الآثار والمتاحف في معلومات منشورة إلى توثيق الحريقين المتجاورين في الزمان والمكان، فأشارت إلى أن الأضرار التي وقعت نتيجة الحريق الأخير في الجادة المتفرعة من القسم الغربي من سوق الحميدية الذي بني عام 1876م، والتي تقع بين سوق الحميدية وسوق العصرونية وتدعى جادة الطحان سوق مردم بك.كانت على النحو التالي:
– العقارات المتضررة: 263، 264 ، أجزاء متعددة من العقار 266..
– العقار 263: وهو عقار صغير بالمساحة مبني من البيتون والبلوك، واجهته الغربية مكسية بالحجر، تعرض لبعض الأضرار الداخلية ولم تتأثر بنيته الإنشائية.
– العقار 264: وهو عقار صغير بالمساحة مبني من مواد مختلطة، أدى الحريق لانهيار الطابق الأول والثاني منه.
– العقار 266: وهو مؤلف من كتلتين شرقية وغربية تفصل بينهما جادة الطحان، ومقسم لعدد كبير من المحلات التجارية، وجزء منه عبارة عن سيباط في الطابق الأول يشكل مدخل جادة الطحان من سوق الحميدية، تسبب الحريق في انهيار عدد من المحلات في الطابق الأول والثاني في قسمه الوسطي والشمالي، وأضرار كبيرة وانهيار شبه كلي للمحلات في طوابقه الأول والثاني والثالث.
– ولوحظ وجود أضرار بسيطة في عدد من المحلات التجارية بالطابق الأرضي في القسم الغربي بسبب الحمولات الزائدة للأنقاض المشبعة بالماء، يقدر عددها بـ 4 محلات.
ويلاحظ التدقيق في التفاصيل الصغيرة التي توثقها مديرية الآثار، وهذا يعني أن حرائق هذه الأيام، لاتمر مرور الكرام، بل توثق وتفصّل ويكتب عنها ويسأل الخبراء عن عدم تكرارها .. والغريب أن الاهتمام بدمشق القديمة لم يكن مجرد هاجس محلي، بل كتبت عن هذه التفاصيل وكالات أنباء كثيرة ..إلى الدرجة التي قامت بها وكالة “رويترز” ببث شريط حي عن أعمدة الدخان وهي تتصاعد من السوق الشهير على بعد عدة كيلومترات في تساؤل مهم عن الخسائر التي قد تلحق بالمدينة القديمة..
وفي تاريخ دمشق الكثير من الحرائق التي تلفت النظر، والتي تجعل من المفيد الحديث عنها بين فترة وأخرى لأهمية الظروف التي مرت بها المدينة، ولأنها في المحصلة النهائية تقدم نوعا من الوثائق التاريخية عن حال واحدة من أعرق المدن في العالم فقد وردت في التاريخ أخبار عن حرائق أصابت مدينة دمشق في الجامع الأموي نفسه أو أنها انتشرت منه إلى المناطق المجاورة ، و نقرأ منها :
حريق قصر الخضراء الذي اندلع في شعبان عام461 للهجرة، حيث أحرقه جنود الدولة الفاطمية الذين كانت الحروب على أشدها بينهم وبين جنود الشام, كما تقول المصادر التاريخية، وحدث أن ألقى العبيديون النار في قصر الخضراء بغضا بالدمشقيين وحقدا على الأمويين, فامتدت النيران إلى الجامع, ففقد المسجد بهجته ونضارته ورونقه, ثم جهد الملوك من السلاجقة والنوريين والأيوبيين والمماليك في إعادة المسجد إلى سالف عهده…..
أما الحريق الثاني، فقد اندلع في شوال عام 740 للهجرة, وكان ذلك في أيام تنكز و هو من ولاة مدينة دمشق المعروفين, فأصيب المسجد بحريق كبير أتلف قسما منه, وأخذ ما يحيط به شرقا وجنوبا من المدارس والأسواق.
في عام 794 للهجرة اشتعلت النار في المئذنة الشرقية وامتدت إلى الجامع، أما الحريق الرابع، فيعرف بحريق تيمورلنك ويؤرخ وقوعه في شعبان عام 803, وشملت الحرائق دمشق كلها على يد تيمورلنك وجنوده, فطرح التتار النار في البيوت فعم الحريق البلد واستمر ثلاثة أيام, واحترق الجامع وسقطت سقوفه وزالت أبوابه ولم يبق إلا جدرانه !!
وكان تيمورلنك قد “مرّ على العراق، ثم على أرمينيا وارزتكان، حتى وصل سيواس فخرّبها، وعاث في نواحيها، ورجع عنها أول سنة ثلاث من المئة التاسعة (يقصد 803 هجرية). وتابع سيره إلى حلب وبعلبك وضرب الحصار على دمشق وابن خلدون موجود فيها “..
وفي رجب عام 884 للهجرة احترقت الأسواق المحيطة بالمسجد الأموي وحاول الناس منع النار من الدخول إليه, وانتشرت النار من الناحية القبلية, ثم عمت الجامع الأموي بأسره, وبعد يومين سقطت قبة النسر وسقط معها نصف المأذنة الغربية’ حتى تضافرت الجهود لإعادته كما كان……
أما الحريق الأخير الذي ذكر من حرائق دمشق والتي أثرت أو تأثرت بحريق الجامع الأموي ، فيعود إلى عام 1311 ويحكى أن عاملا من الذين يصلحون سقف المسجد تسبب به , إذ أتت النار في يوم عاصف فوق باب الزيادة القبلي, ثم انتشرت النار وعمت الجامع كله, ولم تمض ساعتان ونصف حتى أتت عليه……
ومن الأحداث الكبرى على صعيد حرائق دمشق والتي توازي حريق تيمور لنك وهجمة التتار على دمشق فهو حريق التاسع والعشرين من أيارعام 1945 الذي أشعله المستعمر الفرنسي إثر قصف دمشق في ظروف معروفة تعود لما بعد الحرب العالمية الثانية عندما ارتفعت حدة التوتر في البلاد وانطلقت المظاهرات الغاضبة تطالب بالاستقلال، ومع تطور الأحداث أصدر الجنرال الفرنسي أوليفا روجيه بياناً إلى القوات الفرنسية دعا فيه إلى إبادة جميع العناصر التي تكيد لفرنسا، أي الثوار واحتلال جميع مكاتب الحكومة ودوائر الدولة وقتل أو توقيف الوزراء ونزع سلاح جميع السوريين وقطع الاتصال مع الدول العربية المجاورة في هذا الوقت اشتدت المعارك الضارية في حمص وحماة وحلب واللاذقية وديرالزور بين الفرنسيين والأهالي وسقط بها العديد من القتلى والجرحى .
وأوردت المصادر السورية عن تبعات هذه الدعوة أنه وفي يوم 29 أيار عام 1945 كان مقرراً عقد جلسة للمجلس النيابي يحضرها الوزراء في الساعة السادسة مساء ومن أجل إيجاد ذريعة لبدء العدوان طلب القائد الفرنسي من حامية المجلس النيابي أن تصطف لتحية العلم الفرنسي عند إنزاله مساء من فوق ساريه الأركان الفرنسية ( دار المندوبية ) التي تقع مقابل البرلمان .
ومن الطبيعي أن ترفض حامية البرلمان ذلك، فوقعت مجزرة كبيرة لم ينج من حامية البرلمان إلا واحد منها، واتسعت رقعة العدوان فبينما تقدمت المدرعات الفرنسية لتوجه نيراناً حامية وتقصف البرلمان السوري بكل ما تملك من قوة ، راحت المدفعية الفرنسية من قلعة المزة تقذف المدينة بالقنابل مركزة القصف على قلعة دمشق لوجود قوى الدرك والشرطة فيها وظلت قلعة دمشق تحت رحمة القنابل حتى الصباح وقد نتج عن هذا القصف الشديد هدم العديد من الأبنية ومهاجع السجن وظلت الجثث تحت الأنقاض ويقال أن عدد ( الشهداء) من درك ومواطنين وسجناء يزيد عن ثلاثة مئة قتيل ..
ونتيجة لهذا العدوان اشتعلت الحرائق في كل مكان كان أكبرها الحريق الذي شب في شارع رامي والتهم الحريق الشارع كله وأمتد إلى المرجة فالتهم جانباً من حوانيتها ومكاتبها وامتد من ناحية أخرى إلى شارع النصر حتى وصل إلى جامع دنكز فأصاب قسم منه وشب حريق كبير آخر في زقاق المغسلة وامتد إلى شارع فؤاد الأول حتى بوابة الصالحية كذلك شبت النار في العصرونية وسوق الخياطين فالتهمت عشرات المخازن والحوانيت وبعض الكراجات على ضفة بردى عند بداية طريق بيروت وجعلتها ركاماً من رماداً…