محمد الخليفي: عن كتابة الواقع (التونسي) وأهمية التفاصيل
«لماذا تحملنا عناء المقاومة للحصول على الحرية؟ لأنها ضرورية تماماً كالخبز».
(فرنسوا ميتران)
في روايته «هرب» (دار ميّارة للنشر والتوزيع)، يأخذنا التونسي محمد الخليفي في رحلة لتجميع شتات صورة شخصية بطله وليد. يضعنا في قلب الأحداث مع روايات تختلف باختلاف وجهات نظر أصحابها. تبدأ الرحلة في العاصمة، حيث يحطّ وليد رحاله ليدرس الهندسة، تاركاً وراءه مدينته الصغيرة سيدي بوزيد. استغلّ الكاتب هذا الانتقال والتحول في الوضعية والإطار المكاني لينفتح على مجموعة من القضايا الاجتماعية. قضايا تسرّبت في نصه عبر دهشة وليد من أجواء العاصمة وانطوائيته المبالغ فيها أحياناً وتجنبه الاختلاط بالآخرين. هذا الانطباع الأولي الذي يرسخه الكاتب عبر ثنايا النص، سرعان ما يتلاشى أمام التقدم بالأحداث. البطل يحاط بشخصيتين: ناصر وسلمى.
ناصر هو مثال الشاب المستهتر الذي سيكون دافع البطل إلى ولوج عالم الأحلام عبر السهرات والمجون. تجربة سيكون لها أثر في انكشاف هواجس البطل الوجودية.
أما سلمى، فهي التي تثير الجانب العاطفي الحسي لوليد، ومن خلالها يتمكن من تحقيق نوع من الاستقرار النفسي لا يلبث أن يتزعزع مع فتور العلاقة. مع التقدم في الرواية، يجد القارئ نفسه أمام «بورتريه» للبطل تتجمع قطعه المتناثرة الواحدة تلو الأخرى تزامناً مع شهادة كل شخصية.
لعل حفلة عيد الميلاد ــ كما صورتها سلمى ــ تعتبر حدثاً مفصلياً، إذ إنها الليلة التي يختفي فيها البطل، ما يشكّل الحدث في الرواية. ستحدث هذه الواقعة نقلة في نسق القص، لننتقل إلى إطار مكاني آخر وهو «سيدي بوزيد» حيث يحاول كل من سلمى وناصر العثور على وليد. العودة إلى مسقط رأس البطل، كانت فرصة لوضع القارئ أمام أدق التفاصيل، واستباق الأحداث من جهة، ومحاولة فك لغز العديد من ردود فعل وحركات البطل من جهة أخرى.
أربك اختفاء وليد المفاجئ نسق السرد، فانتقلت الشخصيات من حالة الخمول إلى الحركة والبحث عن إجابات. كما أن حادثة الاختفاء كانت سبباً لإعطاء لمحة عن حقيقة المشاعر وطبيعة النسيج العلائقي الذي يربط الشخصيات. من خلال رواية ناصر، نفهم أن هذا الأخير يكنّ كرهاً للبطل وأن حادثة الاختفاء تمثل فرصة وجب اقتناصها للفوز بقلب سلمى. من خلال تقنية السرد المعتمدة على الشخصيات الثلاث، يكون الخليفي قد حضّر القارئ لاستقبال ثالثة الروايات وهي رواية وليد التي تعدّ فرصة لتسليط الضوء على ما تبقى من مناطق غامضة في الرواية. ينقلنا وليد إلى الأحداث التي عايشها أثناء بدايات الثورة، وهنا يطلق الكاتب العنان للبطل ليتحول إلى راوٍ يصف أدق التفاصيل ودموية الأحداث. كما يشير إلى كيفية إيقافه وتعذيبه من قبل البوليس.
المتمعّن في رواية البطل يستنتج أنها لم تكن مجرد تتمة لبقية الروايات، بل أرادها الخليفي تصحيحاً لما جاء على لسان بقية الشخصيات، ومفاجأة للقارئ عبر تفاصيل غير متوقعة.
كانت الحبكة حاضرة في الرواية، وخصوصاً في ما يتعلق بالأسلوب المعتمد في سرد الأحداث من وجهة نظر كل شخصية، وهو ما أدى إلى تمرد الكاتب على سلطان الزمن وجبروت انتظام السرد لينقذ القصة من نمطيتها. ينبني النص أساساً على شخصية البطل وليد وأفعاله وتفاعلاته مع ما يحيط به من أشخاص وأحداث.
ولا شك أن الشخصية البطلة هي محور الأحداث – وهذا أمر طبيعي – بيد أن الخليفي تمكن على امتداد الرواية من جعل روايات بقية الشخصيات وسيلة وظفها لتسليط الضوء على جوانب خفية من بطله. هكذا ومع تجاوز كل مرحلة في السرد، تحل أحجية وليد وتبدأ سيناريوات أسباب هروبه تتشكل في ذهن القارئ.
إن تقنيات السرد الموظفة لنقل الرحلة الوجودية لبطل الخليفي تحيلنا على بطل رواية «البحث عن وليد مسعود» لجبرا ابراهيم جبرا لنستنتج أن الوظيفة القصصية التقليدية للسرد كانت مطية لنقل الحركة/ النسق الذي كان قوامه التحول في المكان والتدرج في الزمان والانتقال بين روايات الشخصيات التي تتوالى لترسم لنا في كل مرة مجموعة من المشاهد التي يستبطنها القارئ وينظمها في ذهنه حسب تسلسل الأحداث المنطقي. السرد في رواية «هرب» يعطي إطاراً قصصياً واقعياً لإقحام القارئ في عوالم الشخصية كي يكون شاهداً على انفعالاتها. كما أن تطويع السرد لرسم الحركة النفسية أو تصوير الاضطراب داخل الذات، هو من نقاط الالتقاء بين وليد بطل الخليفي وعمر حمزاوي بطل نجيب محفوظ في روايته «الشحاذ». هل يمكن اعتبار «هرب» رواية ذهنية؟ لعل أهم ما يميز الروايات الذهنية هو تركيز الكاتب على الأزمة الوجودية للبطل والتكثيف من الحوار الباطني الذي يقحم القارئ في بواطن الشخصية. ولئن كانت بعض هذه التقنيات حاضرة ومبثوثة في مواضع متفرقة من فصول الرواية، فإن محمد الخليفي عمد إلى المراوحة بين مشاهد تأزم البطل، بينما تتبع في الوقت نفسه انفعالات الشخصيات وطبيعة النسيج العلائقي الذي يربط بينها.
لقد سعى الكاتب إلى أن تكون هذه الرواية محاكاة للواقع، أو لنقل أراد لكل من يقرأها أن يرى الواقع بين صفحاتها فيتفاعل مع أزمة البطل، يتألم لإيقافه ويحس بهتافات الحشود في سيدي بوزيد ترنّ في أذنه ويحقد على ناصر. هي كتابة واقعية تترك في القارئ أثراً لا يمحى وتولد لديه مجموعة من التساؤلات اللامتناهية، وخصوصاً مع النهاية المفتوحة التي لا نعلم من خلالها شيئاً عن مصير البطل.
تخرج بنا «هرب» من البعد الضيق وتوسع آفاق الرؤى على المجتمع بأدق تفاصيله. الشباب بشخصيته المركبة، الذي رغم ميوعته – كما ارتسمت ملامحها في شخصية ناصر كنموذج – فإنه يحمل في داخله بذرة التمرد (التي سرعان ما تحولت إلى ثورة يقف لها العالم إجلالاً). وقد تمكن الخليفي من الإلمام بكل هذه النقاط وطوعها بواسطة السرد المحكم.
صحيفة الأخبار اللبنانية