محمد الكفراوي والولع بنجيب محفوظ
يستهل المهندس محمد الكفراوي كتابه “حكاياتي مع العبقري نجيب محفوظ” الصادر في القاهرة عن دار غراب، بستار الختام وهو يسدل على حياة نجيب محفوظ الذي وصفه بأحب وأعز إنسان لديه، ويقول: “في يوم كالح من أيام عام 2006، سقط نجيب محفوظ من فوق سريره بمنزله في شارع النيل بحي العجوزة، مما أدى إلى نقله للمستشفى القريبة من بيته، وذهبت لأراه، وكان في حالة جيدة جدًا، وكانت روحه المعنوية عالية، وضحكته تضئ وجهه كالمعتاد وهو يقول لي: إزيك ياكفراوى؟
وخرجت من غرفته بالمستشفى وأنا متفائل، ولكن في الزيارة الثانية بعد أيام، دخلت غرفته فإذا بالمكشوف من جسده ممتلئ ببقع داكنة، وقيل لي إنه، في الليلة السابقة، سقط من فوق سريره العالي في المستشفى، بعد أن نسى المسؤلون رفع المساند المتدلية إلى جانبي السرير!
وجدته يترنح يمينًا ويسارًا، فقد نزع الأطباء عنه نظارته، وسماعته، بدعوى أنهم يحمونه من إيذاء نفسه، إذا ما سقط مرة أخرى!
وكان رأسه وجذعه يترنحان يمينًا وبسارًا بلا توقف، وكأنه في “حلقة زار”، ذاهلًا عما حوله!
وعندما قال له أحد الموجودين: الكفراوي بيسلم عليك، لم يبد أي إدراك، ولم ينطق بكلمة واحدة، واستمر في الإهتزاز.”
ويعلق “الكفراوي”:
“كان هذا المنظر فوق إحتمالي، فخرجت مسرعًا وأنا أدرك تمامًا إنها النهاية، وإنني لن أر أحب وأعز إنسان لديَّ مرة اخرى.. وقد كان!”
ولكي ندرك مدى جسامة وقع هذا المشهد المأسوي الأخير في شريط علاقة نجيب محفوظ بالمهندس محمد الكفراوي، نتأمل حقيقة مكانتة بالنسبة لمحفوظ، كما أشار إليها إبراهيم عبدالعزيز في كتابه “ليالي نجيب محفوظ في شبرد”، إذ قال عن محمد الكفراوي: “.. وهو إذا حضر فله ناصية الكلام، وإذا سأل سائل، فهو الذي يصل بالسؤال إلى أذن الأستاذ. وكان محفوظ يستمع إليه مهما كانت أسئلته لا ترضيه، فهو وحده القادر على أن يسأله بما لا يستطيع أحد أن يسأله عنه، ويلح في السؤال حتى ينتزع منه الإجابة، ويتهمنا بأننا لا نهتم إلا بما يرضي الأستاذ. أما هو فمصدر الحقيقة مهما كانت صادمة، سواء أعجبت الأستاذ، أم لم تعجبه، وسواء كان الأمر يتعلق بالحاضر أو بالتاريخ، وعلى وجه الخصوص تاريخ الزعيم سعد زغلول الذي يعشقه الأستاذ، ولا يقبل فيه طعنًا لأنه رمز جيله الذي لا يمس”.
ولا يغيب الكفراوي عن الأستاذ إلا نادرًا لظروف قهرية، وإذا تأخر لسبب من الأسباب سأل الأستاذ: أين الكفراوي؟، فهو محور الجلسة في فندق شبرد.
ويوضح الكفراوي عبر كتابه هذا كيف بدأت معرفته بنجيب محفوظ؟ وكيف تطورت؟ وكيف صمدت نحو ربع قرن؟
ومن خلال هذا التوضيح ستظهر شخصية نجيب محفوظ للقارىء كما لم تظهر من قبل، وسيتعرف على مشاعره الحقيقية تجاه الأحداث والشخصيات والمواقف التي قابلها وعاشها. وهو في الوقت ذاته كتاب يعطي للقارئ صورة عامة موجزة لندوات محفوظ ومجالسه في “كازينو قصر النيل”، وفي فنادق: “سوفتيل المعادي” و”شبرد”. وفي الجلسة الخاصة التي شرفه بها الأستاذ في فندق “هليتون رمسيس”.
ويشمل الكتاب في جزء لا بأس به، الحوارات والتحليلات التي أجراها المهندس الكفراوي مع محفوظ، تلك المتصلة بكتبه ورواياته وقصصه القصيرة.
ويجزم مؤلف الكتاب بأن القارئ عمومًا، والقارئ الشاب خصوصًا سيفيد منها في معرفة كيفية قراءة إبداع هذا العبقري الذي قلما يجود الزمان بمثله.
ولن أخفيك عزيزي القارئ أنني أخذت أقلب صفحات هذا الكتاب لأقف على نقطة البداية في علاقة الكفراوي المهندس المدني، العائد من العمل في السعودية عام 1982 بالكاتب الكبير نجيب محفوظ، ولحسن الحظ أن بحثي لم يستغرق وقتًا طريلًا، فقد كتب المهندس الكفراوي مستعيدًا ذكرى أول لقاء جمعه بمحفوط وجهًا لوجه، عندما كان جالسًا ذات يوم أثناء فترة العصر في “كازينو كليوباترا” المطل على النيل بحي العجوزة مع ضيف له، وفجأة لمح نجيب محفوظ جالسًا بمفرده على المائدة التي أمامه، شاخصًا ببصره إلى الأفق. وكان قد قرأ كتبه وبهرته عبقريته، وتمنى أن يعرفه عن قرب ويتمتع بصحبته، فنادى “الجرسون” وطلب منه التوجه للأستاذ نجيب ليستأذنه في جلوسه معه دقائق معدوده، وعندما وافق، إستأذن ضيفه لبضع دقائق وذهبت إليه، وجلس معه، وأخبره بمدى إعجابه وتأثره بروعة رواياته، وأستأذنه في أن يحدد له موعدًا يمكنه من أن يتمتع بصحبته بصفة دائمه. فأخبره الأستاذ بأنه يعقد ندوته الإسبوعية يوم الجمعة في “كازينو قصر النيل”، وأنه يرحب به في أي وقت.
وعاد “الكفراوي” إلى ضيفه وهو يطير من الفرح. ومن هنا بدأت صداقة ممتده مع نجيب محفوظ حتى وفاته عام 2006.
وعلى الفور يتغير المشهد، فننتقل إلى “كازينو قصر النيل” حيث ندوة نجيب محفوظ التي تضم فى المتوسط ثمانية أو عشرة أفراد يتحلقون حول منضدة الأستاذ.
ويذكر الكفراوي أن ضبوف الندوة كانوا يزدادون أحيانًا أو ينقصون. ثم يسميهم ويعرِّفهم لقراء كتابه: مصطفى أبوالنصر، موظف كبير سابق في الرقابة على المصنفات الفنية، وهو مثقف وأديب، وهارفي أسعد الذي يصفه بأنه محام ماركسي، وعلي سالم الكاتب المسرحي الكوميدي الشهير، وفتحي هاشم الطبيب البيطري، وسامي البحيري، المهندس المدني المقيم الآن في أميركا، الذي تسبب في نشر هذا الكتاب في دار غراب، بعد أن عرض الفكرة على صديقه الروائي الدكتور شريف مليكة في ولاية مريلاند، فأشار عليه بأن يتصل المهندس الكفراوي بالناشر حسن غراب، وصدر الكتاب، ومحمد الشربيني، الفنان التشكيلي، وعزيزة الياسرجي المهندسة، ومديحة أبوزيد الصحفية، وعادل عزت، المحاسب والشاعر الذي بشرت بموهبته في مقالاتي بجريدة “الأخبار” عندما أصدر ديوانه المهم “المتصوفون الشعراء في الزمن العصيب”، والدكتور محمود الشنواني، وأحمد فهمي، الناقد السينمائي، ومحمد البدري المهندس، وأحمد سعيد، المدرس والناقد الأدبي.
ويضيف الكفراوي قائلًا: ثم انضم إلى الندوة نعيم صبري، المهندس والشاعر، ومعه شلة من أصدقائه أبرزهم: إلهامي بولس المحاسب وصاحب دار الحضارة للنشر، ووالده أستاذ علم النبات.
ويذكر المؤلف أن المخرج السينمائي الكبير توفيق صالح، الصديق القديم للأستاذ، وهاشم النحاس الناقد السينمائي المعروف، وبعض شباب الصحفيين كانوا يترددون أحيانًا على ندوة قصر النيل. ولكن الحال تغير تمامًا بعد حصول نجيب محفوظ على جائزة نوبل، حيث توافدت أعداد من الشخصيات الأدبية وعدد كبير من الشباب، لتشاهد وتسمع أول أديب عربي حصل على جائزة نوبل.
ويرسم الكفراوي المشهد: كان نجيب محفوظ يجلس أثناء ندوته في القاعة المغطاة بكازينو قصر النيل أمام مائدة ملاصقة لجدار القاعة صيفًا وشتاءً، وكنا نتصبب عرقًا في ذروة شهور الصيف. وقد حاولت عزيزة الياسرجي أن تقنعه بأن ينتقل إلى مائدة مطلة على النيل حتى يتخفف من الحر، فطاوعها الأستاذ ثم عاد إلى المائدة الداخلية الملاصقًا للجدار دون إبداء أي تفسير لذلك.
ولا يفوت الكفراوي أن يقترب في متابعته من مجالس محفوظ في الإسكندربة على الرغم من أنه لم يتردد عليها سوى مرتين أوثلاث مرات، فيقول: كانت تتم عصرًا في حديقة فندق سان إستفانو القديم، وكنت أحضرها كلما ذهبت إلى الإسكندرية، وهي مرات تعد على أصابع اليد، وكان من أبرز روادها الذين أتذكرهم: الشاعر نعيم تكلا، والشاعر عبدالله الوكيل، والكاتب محمد الجمل، والدكتور يوسف عز الدين عيسى.
كما أسعدني الحظ بالجلوس مع نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم في بعض جلساتهما بالإسكندرية صباحًا في كازينو على الجانب المقابل للكورنيش لا أتذكر اسمه، وكانت تضم أحيانًا القطب الوفدي إبراهيم فرج، والكاتب ثروت أباظة.
أما بعد حصول محفوظ على جائزة نوبل فقد توثقت علاقتي بالأستاذ إلى الدرجة التي تحدث عنها إبراهيم عبدالعزيز في كتابه “ليالي نجيب محفوظ في شبرد”. وسوف يدرك القارىء أثناء تصفحه لهذا الكتاب، كيف ولماذا أصبح الأستاذ نجيب يتحمل منى كلمات وتعليقات لا يجرؤ أي إنسان آخر قولها له. ولو أنه كان في بعض الاحيان يلومني عليها بقسوة.
ويصف لنا مؤلف الكتاب كيف اندمج في نسيج هذه الندوة فيقول: كانت بداية علاقتي بنجيب محفوظ عاصفة. ثم يقول: عندما ذهبت إلى ندوة قصر النيل، كانت الندوة تعج بالناصريين والشيوعيين، فوجدت نفسي الليبرالي الوحيد تقريبًا فيها.
ولك أن تتخيل أنه حتى الكاتب الساخر علي سالم، الذي أصبح في السنوات الأخيرة من عمره من أشد المؤمنين بالليبرالية،، ومن أشد المؤمنين بالسادات، كان في بداية انضمامي للندوة، من أشد الناصريين تعصبًا! فما بالك بباقي الناصريين والشيوعيين الذين كانوا يتوافدون على الندوة دون أن يتمتعوا بظُرف علي سالم وتهذيبه؟!
لذلك كان لا بد من أن أكون شديد التركيز، وشديد الإستفزاز في الدفاع عن مبادئ الليبرالية، وعن أنور السادات الذي كنت من أشد مؤيديه.
وبالرغم من أن الاستاذ نجيب كان شعوره محايدًا تجاه السادات، إلا أنه كان اشتراكيًا أصيلًا، وكان اصدقاؤه والمحيطون به عن قرب من الناصريين والماركسيين.
وكانت شهرته الأدبية والفنية تدين – بجانب موهبته الفذة – لهؤلاء الناصريين والماركسيين الذين ألفوا الكتب النقدية الرائعة عن رواياته مثل: محمود أمين العالِم، والدكتور غالي شكري، ورجاء النقاش، وغيرهم من كتاب المقالات ومؤلفي الكتب.
لكل هذا أعتقد أنه لم يرتح في البداية إلى هذا الوافد الجديد الذي يدافع عن الليبرالية والرأسمالية بإسلوب إستفزازي بعيد كل البعد عن الأسلوب الهادئ لنجيب محفوظ. ومما زاد الطين بلة، واقعة طريفة وعجيبة، لم أقلها للأستاذ نجيب حتى رحيله حرصًا على مشاعره.
وقد كادت هذه الواقعة تحول مشاعر الأستاذ تجاهي، وتبعدني نهائيًا عن الندوة بالرغم من أنني كنت أدافع فيها عن فنه وعبقريته!”
والكتاب حافل بتفاصيل ما دار في مجالس نجيب محفوظ، كما سجلها ونشرها علينا واحد من محبيه.
ميدل إيست أونلاين