محمد النعّاس: رحلة ميلاد بحثاً عن «رجولته»
يقول الكاتب محمد النعاس في مقابلة مع «سكاي نيوز عربية»: «كنت مصرّاً على أن يكون البطل خبّازاً» ولأنه لم يكن يعلم شيئاً عن صناعة الخبز، فقد مزّق المخطوطة الأولى، وأعاد كتابة روايته عام 2020 بعدما بذر كيلوغرامات كثيرة من الدقيق من أجل تعلّم صناعة الخبز، «ومنذ أن تعلّمت كيف أصنع الخبز، انفتحت أمامي آفاق كتابة الرواية، لأنّ ميلاد كان ينتظرني أن أتعلّم صنعته كي أكتب الرواية».
في «خبز على طاولة الخال ميلاد» (دار رشم للنشر والتوزيع ـــ 2021 ــ جائزة «بوكر العربية» لعام 2022) تتزاحم الأسئلة: ما الذي جعل من هذه الرواية قطعة أدبية فريدة؟ طرحُها مفهوم الرجولة وحقوق المرأة والجندرية، أم اعتمادها على المثل الشعبي وتفاصيل الحياة المحليّة، أم تتبّع الحياة المنتقاة للشخصية وصنعتها وتعلّم تفاصيلها والتركيز عليها، أم قدرة الكاتب على السرد السهل الممتنع؟! أسئلة أخرى لا حصر لها، كلّها تحتمل إجابة واحدة، نعم، هذا المكوِّن هو السبب، فتكون الأسباب مجتمعة سبباً واحداً جامعاً شاملاً، امتلكه شابٌّ ليبيّ طموح، يحمل ثقافةً جيّدة، وهمًّا كبيرًا، وموهبة يصقلها رويداً رويداً حتى تصل به لأن يكون كاتباً كبيراً.
«عيلة وخالها ميلاد» ( تعني في الثقافة الشعبية الليبية «المخنَّث الذي لا سُلطة له بوصفه رجلاً على نساء عائلته») هكذا تبدأ الرواية، وعلى هذا المثل اعتمدت في تشكيلها الأول، ليكون ميلاد الشاب اللطيف الرقيق خبّازاً ورث الصنعة عن أبيه، ولكنه لم يرث «رجولته» بحسب مفهومها الشائع. وهنا تأتي أهمية اختيار الشخصية من قِبَل الكاتب، لأنّه يريد أن يواجه فيها فكرة «الشذوذ الجنسي» الذي يلصقه المجتمع بكل من اختلفت لديه صفات الرجولة عن الشائع، وأيضاً صفات الأنوثة، فتكون المرأة «مسترجلة» والرجل «مْأَنِّت»، فقط لأنها أقوى من صورة المرأة الهوليوودية والنانسي عجرمية، ولأنه يخالف صورة الرجل الـ«بادي بلدر» والتَّيم حَسَنـيّ. ولا تأتي الرواية على وصفه بـ«الشاذ» إلا في المعسكر، مع المادونّا (المدرِّب العسكري) الذي أراد أن يتسلّى ويُظهِر ساديّته مع ميلاد، «ميلاد يا ضعيف، انهض… هل تريدني أن أحملك؟ ها؟ هل عليّ أن أبحث عن قضيبك؟ أمتأكّد أنّك رجل؟ انهض أيها الضعيف، انهض. سأمزّق لك الحيوان المغروس فيك وأجعل مكانه حفرةً، هل هذا ما تريده؟ هل أتيت هنا لتنبت لنا جُحراً؟». (ص78) هذا المادونّا الذي ترينا إياه الرواية في ما بعد بعيون ميلاد عجوزاً، لتُظهِر الجانب المحبَّب لدى ميلاد الذي لم يستغلّ الفرصة ليذكّره بنفسه ويعيّره بما أصبح عليه.
لقد بدأ تشكيل الوعي لدى ميلاد بالخجل من شخصيّته وصفاتها منذ طفولته، مع الأب الذي أراده رجلاً بصفاته هو «المهم يا ولد، لاحظتُ لديك ميوعة، يجب أن تسترجل… يا ولَد يا غبي، أنت رجل، لا يجوز للرجل أن يجالس النساء… بل وتتمادى وتلمس شعر أختك… في ذلك اليوم تحصّلت على أكبر صفعة في حياتي. أكبر من صفعات المادونّا وضرباته، جذبني والدي إليه وأخبرني بأنني أحتاج أن أسترجل وأترك رفقة أخواتي» (ص35-36)، وأمه التي طالما حزنت ووبّخته عندما كانت تراه يقوم بأمور تخص الفتيات «عندما كانت تجدني أغسل الأواني، قبل الزواج، في مطبخها كانت تطردني، وتقول لي إنني رجل، والرجل لا يجدر به أن يمسك سوى المسحاة أو الخباشة، الرجل يزرع ويحصد والمرأة تطبخ، الرجل يبني ويعمّر والمرأة تنظّف ما بناه» (ص57)، حتّى أخواته، فهنّ يظهرن في ما بعد بأنهنّ يردنه كما يرينَ هنّ الرجل، لديه ذرّيّة وصاحب السلطة في بيته، فتكون الأخوات من مسببات توتّر علاقته بزوجه وحبيبته زينب «شككتُ في كونها أختك صالحة، تعتقد أن هذه الخرقة ستفسد علاقتك بي، الأمر يتطلب أكثر من ذلك، ورمت بالحجاب في القمامة» (ص272).
شخصية زينب، حبيبة ميلاد وزوجه، المرأة التي أرادت التحرّر والعمل وإثبات الوجود، ليست ذات أهمية بذاتها، لأنّ هذه الشخصية موجودة بكثرة في جميع الأعمال الفنية، أدبية كانت أم تلفزيونية أم سينمائية أم غير ذلك، ولكنها كانت داعمة لعملية التحول التي ستحدث لميلاد، فلو كانت شخصية عادية، امرأة راضية بالواقع رضيَت بالزاوج من «مخنَّث»، لن يكون لها دور في سير الأحداث وتأزّمها، ولما كانت شخصية «المدام» المستغِلَّة لتعتمد على شيء، ولما استطاعت شخصية «العبسي» أن تهدي ميلاد حزامها الذي هو الحل لترضخ له زوجه الخائنة «اضربها حتى تتربّـى… هل يحتاج الرجل منّا إلى دليل أو سبب ليضرب زوجته… أنت أحمق وغبي… أنا أحياناً أضرب أخواتي فقط للتسلية… هاك خُذ حِزامي، اعتبره هدية التخرّج» (ص286-287).
هل المدام هي السلطة التي تستغلّ نقاط الضعف لدى العامة لتسود، والحزام هو عادات وتقاليد بالية نعود إليها أسلحةً نستخدمها عندما تلحّ في لا وعيِنا أبويّة وشرقيّة وبطركية نظنّ أننا تخطيناها وأصبحنا منفتحين متقبّلين محبّين… ربّما!
إذاً، إنها رواية الشخصية المسيطرة على الزمان والمكان، حيث نجد أهمية كبيرة لما قام به الكاتب، وهو اعتماده على البيئة الليبية، ولكن من دون أن تغرق روايته في تفاصيلها فتضيع عن غايتها، ومن دون خَلق بيئة عامّة بعيدة عن الواقع، ويكون الزمان للأحداث، مع كل التقنيات التي اعتمدها الكاتب من استباقات واسترجاعات ووقفات، غير أساسي بذاته بل من أجل اللعبة الروائية السردية، فنجد الزمان والمكان، مكوّنين، هامشيَّين، على القدر نفسه من أهميّتهما. وهنا مكمَن القوة التي جعلت النصّ ما هو عليه.
الخبّاز ميلاد، الذي تحكّم بالطحين والماء والعجين والتخمير، ليصنع خبزاً لا مثيل له، لم يستطع أن يعجن نفسه ويخبزها، ويحافظ على فرادتها، لأنّ قوّة في متجمعاتنا، أقوى من أن نصفها، خبزته وعجنته ليصبح «رجلًا» يستطيع أن يصرخ ويضرب، ويقتل.
وفي النهاية أختم مع مقطع يأخذنا إلى قضية أخرى من القضايا الكثيرة التي طرحتها الرواية «كان عليّ في ذلك اليوم أن أستنتج القوانين التي اتفق مجتمعنا على وضعها، ومنها أنّ العفوية في الحديث عمّا يجول ببالك قد تشكّل خطراً عليك وعلى من حولك. تعلّمت الدرس الخطأ، تعلّمت أن أصمت» (ص37). تعلّم الدرس الخطأ بدلاً من الدرس الصحيح الذي هو عدم الصمت عن حقوقنا في أوطاننا التي انتُهِكت بسبب درس الصمتِ الذي حفظناه ومارسناه منذ عقود، ولـمّا ننساه بعد.