محمد راشد يؤكد أن المكتبة المصرية تفتقر لمؤلفات في علم المتاحف
يأتي كتاب “علم المتاحف.. نشأته، فروعه وآثره” للباحث د.محمد جمال راشد رئيس قسم إدارة المتاحف بكلية الآثار جامعة دمياط، على نهج “علم المتاحف الجديد”. وفيه يتلمس المؤلف الخطوط العريضة لعلم المتاحف، مع محاولة تقديم قراءة صحيحة للعلم، منهجيته، فروعه وخطوطه العامة، مع التأكيد علي التعامل مع علم المتاحف كعلم مستقل، ليس كما يراه البعض كفرع من فروع علم الآثار، وليس بالصورة المقتضبة له بالممارسات التطبيقية للعمل المتحفي.
يلفت راشد في مقدمة كتابه الصادر عن دار العربي إلى أن المجتمع المصري عُرف عبر تاريخه الطويل بطبيعته الإجتماعية الودود وحس الفكاهة، فضلا عن الإلتفاف والمشاركة المجتمعية في الفرح وفي الأحزان والأزمات علي حدا سواء.
بل ومن سماته وطرائفه كذلك حس الفضول، ويقول “تخيل إذا ما جرى حادث في الطريق، أو ربما حريق أو مشكلة إذ تجد إلتفاف الناس بسرعة البرق حول الحدث لمعرفة ما يحدث، ومنهم من قد يتأخر على عمله لمد يد المعاونة، أو لمجرد الحرص على معرفة ما يحدث، ثم لا يلبث ان يقدم كل واحد تصوره الشخصي للحادث أو الموقف وروشتة للعلاج أو الخروج من الأزمة وتجنب تكرارها.
وبعيدا عن كون نظرة البعض لهذه السمات باعتبارها من الصفات المحمودة أو غير المحمودة لدى المجتمع والفرد، إلا أن الشاهد في الأمر هنا مثل هذه الصفات تمثل نواة وقاعدة للبناء عليها إجتماعيا في مجابهة مشاكل المجتمع ومناقشتها، والوقوف على الأمراض الإجتماعية وتتبع جذورها وعلاجها – إذا ما توافرت المؤسسات المعنية بدراسة السلوك الإجتماعي للفرد والجماعة داخل المجتمع. وتهيئة المناخ المناسب لعلاج السلوكيات السلبية وتدعيم وتنمية السلوك السوي أو الصحي والسليم. ومن بين المؤسسات المعنية بذلك المؤسسات التربوية والثقافية، والتي يأتي في مقدمتها مؤسسة المتحف”.
ويؤكد راشد أن مثل هذه الخصائص الإجتماعية للمجتمع المصري إن دلت على شيء فإنما تدل على مدى إمكانية نجاح المُتحف كمؤسسة إجتماعية داخل المجتمع. لما لها من دور في نقل نبض المجتمع وصوته، إلا أن ذلك فيما يبدو لم يتحقق في الواقع كما ينبغي بعد. والشاهد في الحقيقة ليس عزوف المجتمع عن المشاركة بقدر ما هو عدم نجاحنا كمتحفيين في الوصول للمجتمع ولمس إحتياجاته وتوقعاته بالصورة اللازمة. أي أنه أمامنا الكثير من العمل لتطوير متاحفنا ورفع كفاءة المتحفيين العاملين بها، والخدمات التي تقدمها للمجتمع من أجل تحقيق الوصول والتواصل الإيجابي مع المجتمع المصري.
وعلى صعيد المتاحف المصرية، يرى راشد أن المتاحف في مصر تشهد حراكا ونهضة غير مسبوقة منذ نشأتها قبل قرابة القرنين من الزمن. ولعل أهم ما يميز هذا الحراك وتلك النهضة التي تشهدها متاحفنا في السنوات العشر الأخيرة تحديدا، هو أنها تأتي في صورة تغيير جوهري في دور المتحف تجاه المجتمع، وطريقة تفاعل المتاحف مع المجتمع المحيط، فضلا عن تزايد ملحوظ في عدد المتحفيين الذين درسوا أو تدربوا في المتاحف الكبري والمؤسسات المعنية بالمتاحف حول العالم.
فكان التغيير، والذي لم يكن أبدا من غرائب الصدف أن يتزامن مع ثورة يناير 2011. وإنما، هو صورة من صور الثورة الحقيقية والتغيير القادم علي يد شباب المتحفيين المصريين، الذين اكتسبوا من الخبرات والمعرفة، ما دفعهم لمحاولة التغيير وتطوير المتاحف المصرية لتكن صورة تعكس المجتمع، وتتفاعل مع مشاكله وإحتياجاته. فلم يعد من المقبول أن تظل متاحفنا بمثابة أبنية محصنة لحفظ وتأمين الأثار وعرضها لجذب السائحين، بإعتبارها مصدر من مصادر الدخل القومي – كما رأتها الحكومات المتتالية علي مدار عقود – وإنما هي أداة لتنمية المجتمع وتطويره، بجانب دورها المهم في تكوين الشخصية المصرية.
ويلاحظ راشد أن هذا الحراك النابع من السواعد الشابة في المتحف المصري، والذي لم يلق التأييد الكافي من قبل مؤسسات الدولة المعنية – في عقود سابقة، أتي بثمارة في إحداث نقلة محسوسة في دور المتحف داخل المجتمع، وفي التزايد الملحوظ في عداد المصريين المترددين على المتاحف اليوم، والتي شملت أيضا تزايد في المشاركة الفعالة من المجتمع في الأنشطة المتحفية التطوعية والثقافية والترفهية. لا يزال الطريق طويلا أمام متاحفنا، وإن كان أول الغيث قطرة. وفي الوقت الذي بلغت فيه الدراسات المتحفية ذروتها في أوروبا وأميركا وبعض الدول الآسيوية مثل اليابان والصين؛ لا تزال هذه البرامج تحبو أولي خطواتها في مصر. وذلك علي الرغم من كونها أولى دول العالم القديم في إنشاء المتاحف. وفي العصر الحديث كانت كذلك من البلاد الرائدة في إنشاء المتاحف والتي يعود أقدمها في مصر إلى 1836. فضلاً عن كون نشأة التربية المتحفية كأحد أهم فروع علم المتاحف، ربما ترجع نشأتها للنوابغ المصرية على يد أحمد كمال باشا، في العقدين الإخيرين من القرن التاسع عشر، والذي نهج هذا المنهج عندما ضُيق عليه الخناق، ولم يستطع العمل كأمين مٌتحف بالمتحف المصري في بداية حياته العملية.
ويلفت إلى أنه على الصعيد الأدبي للدراسات المتحفية، فإن المكتبة المصرية تفتقر لمؤلفات متخصصة. إذا أن عدد المؤلفات والكتب التي تطرقت للمتاحف باللغة العربية يمكن حصره على أصابع اليدين، فضلا عن أن مجمل هذه المؤلفات تستعرض تاريخ ونشأة المتاحف وأهم مقتنياتها بشكل خاص. ويكاد لا يوجد مؤلف واحد في المكتبة المصرية يتناول علم المتاحف كعلم، منهجيته، فروعه وتخصصاته.
وهذا ليس تقليلا من جهود ما سبق بقدر ما هو توضيح لإهتمامات كتابات كل مرحلة، فقد ركزت كتابات الأجيال السابقة حول تاريخ المتاحف والمتاحف المصرية ومجموعاتها لتوثق لجانب مهم وتغطي مرحلة أساسية، بينما وجب أن تتمحور كتابات المرحلة المقبلة على علم المتاحف، فروعه ومناهج إدارته، تماشيا مع التطور السريع للمتاحف عالميا، وعربيا ومحليا، وكذلك انعكاسا لمتطلبات البرامج المستحدثة للدراسات المتحفية بالجامعات المصرية. ولعل البادرة الطيبة التي أقدمت عليها مكتبة الإسكندرية بالتعاون مع اللجنة الوطنية المصرية للمتاحف علي إصدار سلسلة “كراسات متحفية”، والتي صدر منها بعض الكراسات على مدار الأشهر الماضية تمثل بداية طيبة لهذا النهج الجديد.
في ضوء ذلك قسم راشد كتابه لتمهيد وثمانية فصول، حيث قدم التمهيد لنشأة علم المتاحف، وعلم المتاحف الجديد، والآراء المختلفة حول تعريف العلم وفصله عن الممارسات التطبيقية للعمل المتحفي. وجاء الفصل الأول، ليتناول نشأة المتاحف في العالم القديم، والمتاحف الحديثة، وتأصيل فكرة الإقتناء والحفظ والعرض. والفصل الثاني، يستعرض التعريفات المختلفة للمتحف، وتأصيل كلمة مُتحف واشتقاقها في اللغة العربية واللغات الأوروبية. وكذلك تطور تعريف المتحف ليكون متماشي مع تطور دوره الفعلي، الوظائف والأدوار الرئيسية التي يقوم بها المتحف والتي حددها تعريفه. والفصل الثالث، ناقش الأهداف المرجوه من إقامة المتاحف، ودور المُتحف تجاه المجتمع وتنميته علي المحاور المختلفة وخلق بيئة إجتماعية صحية، وكذلك القيم التي يقدمها المتحف للمجتمع. وفي الفصل الرابع، يناقش المؤلف الأنواع المختلفة للمتاحف والمجموعات المتحفية، والقواعد المستخدمة في تصنيف المتاحف، مع إعطاء تعريف مبسط وأمثلة للأنواع المختلفة للمتاحف.
وينتقل الكتاب في الفصلين التالين للحديث عن بعض المتاحف العالمية موزعة وفق أنواع المتاحف الفصل الخامس، والمتاحف المصرية نشأتها، تطورها، ومراحلها المختلفة، مع التقديم لأقدم وأهم المتاحف المصرية، ملحقا بحصر لجميع المتاحف المصرية بالفصل السادس. ثم الفصل السابع، ويستعرض حركة المتاحف في الوطن العربي، أهم المتاحف العربية؛ مع التركيز علي النهضة والنشاط الملحوظ للمتاحف ودوره في بلاد الخليج العربي. ويأتي الفصل الثامن ليناقش موضوعا رئيسيا ومهما، ألا وهو الفروع المختلفة لعلم المتاحف، واختصاص كل فرع من هذه الفروع، أهميته وتطوره. فضلا عن العلوم المساعدة أو العلوم ذات الصلة بعلم المتاحف، وطبيعة العلاقة بينها وبين علم المتاحف.
وأخيرا، الفصل التاسع، وهو يستعرض المؤسسات الدولية المعنية بالمتاحف مثل المجلس الدولي للمتاحف، ومهمة هذه المؤسسات، ودورها تجاه المجتمع الدولي للمتاحف، وكيفية الإستفادة منها والتواصل مع أنشطتها المختلفة.
ويأمل راشد أن يكون هذا الكتاب نواة لسلسلة من المؤلفات التي تغطي الفروع المختلفة لعلم المتاحف تصدر تباعا في السنوات القادمة تحت عنوان “موسوعة إدارة المتاحف”. يأتي في مقدمتها مؤلف بعنوان “العرض المتحفي”، وآخر بعنوان “نُظم الإدارة الحديثة للمؤسسات المتحفية”.
ميدل إيست أون لاين